بقلم : مأمون فنديمايكل جاكسون مهد الطريق لأوباما إلى البيت الأبيض، وما تلك بمبالغة إذا ما فهمنا رحلة جاكسون الفنية في سياقها الأميركي. مايكل جاكسون وألفيس بريسلي و بروس سبرينغستين في الفن، وتوماس بنشين ودون دوليللو في الأدب، وفرانك لويد رايت في المعمار، هؤلاء أهم ملامح مجتمع ما بعد الحداثة الأميركي، ما بعد الفروقات العرقية، وما بعد التمييز الجنسي، هذه الملامح التي تثير حالة من التوتر في المجتمعات التقليدية هي مصادر الإلهام ذاتها في مجتمعات ما بعد الحداثة
«ليس مهما أن تكون أبيض أو أسود»، أغنية لمايكل جاكسون ضمن ألبوم غنائي صدر له عام 1993، خلبت لب العالم خصوصا أنها كانت وفي نسختها المرئية مصحوبة بصور لفتاة سوداء يتغير وجهها بين اللحظة والأخرى ليصبح وجه رجل آسيوي أو فتاة بيضاء أو رجل عربي أو امرأة هندية، كل الوجوه تتوالد من بعضها البعض في رسالة واضحة ضد العنصرية. ورغم أن مايكل جاكسون لم يكن أسود أو أبيض في سنواته الأخيرة بعد الجراحات التجميلية التي أجريت لوجهه وجسده، فإن بعض السود لم يكونوا مرتاحين لهذه التحولات، وذات مرة علقت امرأة سوداء ساخرة «إن لم يكن مهما لون المرء أبيض كان أم أسود كما يغني جاكسون، فلماذا إذن أصبح هو أبيض اللون؟». هذا النوع من الانتقادات القاسية لاحق مايكل جاكسون في كل رحلته، ولكن حتى الذين يخصونه بهذه الانتقادات كان معظمهم يعترفون بأن مايكل جاكسون ظاهرة فنية لن تتكرر في زمن طويل، وأنه موهبة غنائية استعراضية شاملة وفوق العادة
موسيقى مايكل جاكسون التي بدأت مع الخماسي جاكسون عام 1968، عندما كان عمره عشر سنوات فقط، جاءت في فترة زخم ثقافي وسياسي ساد الولايات المتحدة الأميركية، خصوصا في الغرب الأميركي، حيث كانت حرب فيتنام ما زالت مستعرة، وكانت الولايات المتحدة تواجه تحديين كبيرين، أحدهما خارجي يقاوم التمدد الشيوعي، والتحدي الآخر داخلي ضد العنصرية، قادت مظاهراته مجموعة من رجال حركة الحقوق المدنية السود، مثل الرمز الكبير مارتن لوثر كينج ومن بعده القس جاسي جاكسون. في تلك الفترة، حيث كان أي اختلاط بين العرقين ثمنه القتل، كانت أميركا الغنائية هي المقدمة لمشروع الاختلاط بين الأبيض والأسود، أي حدث التزاوج بينهما أول ما حدث في الموسيقى، بعدها رأينا رجلا أسود يواعد فتاة بيضاء، ورأينا زيجات مختلطة بين البيض والسود، مثل ذلك الزواج الذي حدث بين رجل أسود مهاجر من كينيا بامرأة أميركية بيضاء، زواج أنتج طفلا أصبح بعد أقل من خمسين عاما رجل أميركا الأول ويجلس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض
استعار مايكل جاكسون من موسيقى البيض، كما استعار قبله الأسطورة ألفيس بريسلي من السود حركاتهم في الرقص. ألفيس بريسلي عندما تبنى رقصات السود المصاحبة لموسيقي البيض جعل حركات السود وموسيقاهم مقبولة في المجتمع الأبيض، ومهد لتقبل البيض في فترة الستينات المتسمة بالراديكالية السياسية، موسيقى الأميركي الأسود تشك باري الذي أصبحت أغنيته «إلى الأمام يا جوني» فيما بعد شعارا لحملة المرشح الأبيض للرئاسة جون ماكين
ظاهرة جاكسون إذن لم تأت من فراغ، بل هي امتداد لظواهر أخرى فنية سبقته، كلها تحاول مزج الأبيض بالأسود. فألفيس بريسلي مهد الطريق لظهور مايكل جاكسون كما مهد جاكسون الطريق عبر الفن لتقبل المجتمع الأميركي الأبيض لوجه الرجل الأسود الموهوب والناجح، فأتت أوبرا وينفري ببرنامجها الذي استحوذ على اهتمام الأميركيين، ومن ثم كان النصر الكبير لسود أميركا بوصول باراك أوباما للبيت الأبيض. مايكل جاكسون ومن قبله ألفيس بريسلي، بموهبتيهما الكبيرتين اللتين لا يمكن إغفالهما، كانا بمثابة الجسر الذي جمع بين لونين متصارعين ليس في أميركا فحسب بل وفي العالم كله
مايكل جاكسون خلط الأسود بالأبيض، ليس على مستوى الأغنية فقط وإنما على مستوى الشكل، وكأنه أراد بتغيير ملامحه الفيزيائية تغيير النفس والمجتمع. وربما كان زواجه بابنة ألفيس بريسلي، ليزا ماري، تأكيدا على امتداده لألفيس بريسلي، لقد كان هذا الزواج يحمل رمزية أراد مايكل التأكيد عليها على مستوى الفن وتدعيمها بعلاقات الدم وخلط الأنساب. بغض النظر عن الجدل الكبير الذي صاحب حياة جاكسون، وبغض النظر عن مواقفنا حوله، إلا أن ظاهرة تغيير الذات كمقدمة لتغيير المجتمع هي ظاهرة لا تنتجها إلا المجتمعات الحية القابلة للتغيير وتصحيح المسار، أما المجتمعات «المتيبسة» فلا يغيرها إلا الله
كان مستغربا لدى الكثيرين عندما اختتم جيرمين جاكسون، الأخ الشقيق لمايكل، كلمته يوم وفاة شقيقه بعبارة: «ليكن الله معك يا مايكل»، حيث نطق كلمة الله بالعربية، مما أثار أسئلة عما إذا كان مايكل جاكسون مات مسلما أم أن عائلته مسلمة أم أن أخاه هو الذي اعتنق الإسلام، وهل سيدفن على الطريقة الإسلامية؟ وعلى ما يبدو فالجدل سيلازم الرجل في مماته كما لازمه في حياته، وستبقى الأسئلة تدور حوله حيا وميتا. كثيرون يحتفظون لمايكل جاكسون، وخصوصا في العالم العربي، بالصورة السلبية، صورة رجل غير سوي لديه ميول شاذة للأطفال أو أنه رجل تبرأ من عرقه ولونه، لكن جاكسون لا يمكن أن يقرأ من خلال منظومة قيمية واحدة، مايكل جاكسون هو ظاهرة أميركية خرجت من تعقيدات ومناخات المجتمع الأميركي على اتساعه وتنوعه وظروفه التاريخية والاجتماعية، ولا يمكن أن نحكم عليه خارج سياقه
عندما أعلن مايكل جاكسون عن مجموعة حفلاته التي كان سيحييها في لندن، قال في المؤتمر الصحافي، وكأنه يدرك دنو أجله: «إنها آخر الحفلات، ثم يسدل الستار». وبالفعل، كانت هي النهاية حتى قبل أن يبدأ رحلته الأخيرة إلى العاصمة البريطانية. يقال إن الناس يشعرون بموعد موتهم، فيقولون كلاما متناثرا حول النهاية، كلاما لا يعني شيئا في حينه، ولكنه يصبح ذا دلالة فيما بعد. قال المقربون منه إن الرجل الخمسيني بقي طفلا في جسد رجل، لديه حساسية الأطفال وعلاقتهم الأولية بالكون والأشياء. قد يكون هؤلاء على حق، فهذا الرجل الذي باع أول ألبوم له بما يقارب المليار دولار، ولديه الكثير من هذه الألبومات الناجحة جدا، مات مديونا. ربما الطفل فيه لم يعرف كيف يتعامل مع الأموال. ورغم موته في سن مبكرة، فإن مايكل جاكسون مات مشروعا مكتملا قام بدوره الفني والاجتماعي، وغالبا ما تنتهي الأرواح عندما تنتهي مهمتها، والرجل قد أنهى مهمته، وهكذا شاءت الإرادة الإلهية
مايكل جاكسون ولد على الشاشة ومات على الشاشة. فمنذ سن العاشرة حتى سن الخمسين كان جاكسون نجم استعراضات غنائية. وبذا يكون مايكل جاكسون أطول سلسلة شاهدناها من «تلفزيون الواقع». موت مايكل جاكسون هو موت تلفزيوني لطفل ولد مع ظهور الشاشات، شيء أشبه بموت الأميرة البريطانية ديانا، هذا الموت العام الذي تتعلق فيه مشاعر الناس بشخص بعيد جدا كأيقونة لم يروه ولم يعرفوه ومع ذلك يذرفون عليه الدموع. غرام بالصورة تخلق لدينا مشاعر حقيقية وزائفة في الوقت ذاته، فنحن لم نر جاكسون حيا، وإنما رأينا الصورة على التلفاز، قيل لنا إن جاكسون مات، ومع ذلك تبقى رقصاته وصوره أمامنا، فأي الأمرين نصدق، هل نصدق الحقيقة أم نصدق الصورة؟ في عالم ما بعد الحداثة الذي يكون فيه الخيال أقوى من الحقيقة، والصورة أكثر قوة وجاذبية من الأصل، فإن جاكسون لم يمت، مات الجسد وبقي الفنان، بقيت الصورة المتلفزة التي هي في نهاية المطاف أكثر تأثيرا وقوة من الجسد الحقيقي. مات جاكسون بمعنى أننا لن نرى عملا جديدا له، اكتملت أعماله لكن الفن باق والصوت باق والصورة باقية
جاكسون لم يكن مجرد إنسان عادي، بل كان ظاهرة فريدة اختلطت فيها الأعراق، واختلط فيها الجنس، واختلطت فيها المعايير، هو ظاهرة العالم المختلط، عالم ما بعد أسطورة النقاء. ما بعد الأبيض النقي والأسود النقي. العالم لم يعد أبيض وأسود
*نقلا عن جريدة “الشرق الأوسط”