بقلم : وحيد حامد
أسافر سنويا منذ ثلاثين عاما أو أكثر قليلا إلى مهرجان «كان» السينمائى حتى أصبحت هذه السفرية عادة، وهذا العام ترددت كثيرا بل وتخوفت وقررت كسر هذه العادة والامتناع عن السفر. والأسباب واضحة، أولا: هذا العام هو عام «الضنك»؛ الأزمة المالية الخانقة التى فرضت على الدنيا كلها حياة التقشف والتدبر، وثانيا: هذا الوباء المسمى «إنفلونزا الخنازير».. ولأنى أشاهد التليفزيون قبل النوم فقد كان النجم الأول على جميع الشاشات هو الدكتور حاتم الجبلى، وزير الصحة، الذى صال وجال، وصرح وقال، وأمر وشرح ونصح وحذر، وكأن مصر حماها الله على شفا حفرة من نار، وأنا باعتبارى أحد صناع السينما فى مصر وجدت أن السيد الوزير يحذرنا من الذهاب إلى دور العرض السينمائى فى كل حديث وعلى كل شاشة، حتى خشيت أن يتطوع أحد أعضاء المجلس الموقر ويطلب إغلاق دور العرض السينمائى.. وما يجرى على السينما بالضرورة سيجرى على المقاهى وكل أنواع الملاهى وحتى المحال التجارية.. وأمرنا السيد الوزير بالصلاة خارج المساجد وليس بداخلها.. وكأى مواطن عادى لابد أن أصدق وزير صحة بلادى.. فكيف أسافر وأركب طائرة تقل أكثر من مائتى راكب، وهى مكان محكم الإغلاق. ثم إننى مسافر أصلا إلى مهرجان سينمائى أى أننى سأدخل السينما وأغادرها متجها إلى سينما أخرى ومشاهدة أخرى، وجمهور مهرجانات السينما من كل أنحاء الدنيا بما فيها دولة المكسيك، الموطن الأصلى للوباء.. قلت فى نفسى «بلاش السنة دى.. دى سنة الفقر والمرض
إلا أن الله شاء لى أن أسافر رغم كل هذه المحاذير والمخاوف.. رحبت بدعوة الأستاذ عماد الدين أديب لحضور عرض فيلم «إبراهيم الأبيض»، من إخراج ابنى مروان حامد فى عرض خاص بالسوق التجارية بالمهرجان.. وبالطبع أصبح السبب فى ضرورة السفر يجب كل أسباب الخوف من السفر..
فى المطار الجديد «الصالة الثالثة»، فعلا كل شىء على أحسن ما يكون ومدهش ومبهر، وهناك نظام والتزام واحترام مع اختفاء سلبيات البشر من العاملين فى المطار عادة ــ وأرجو أن يستمر الحال هكذا ــ وجلست فى استراحة ركاب درجة «رجال الأعمال»، بسم الله ما شاء الله كل حاجة تمام.. شىء واحد هو الموسيقى من وجهة نظرى وحسب ذوقى وجدت أنها غير مناسبة، حيث إنها مختارات من موسيقى شرقية لا تناسب كل الأذواق ولكنى قلت فى نفسى «هيه جت على المزيكة ــ دى تلاكيك» وما هى إلا لحظة من التأمل فى سعادة وإذا برجل فخم وقور وقف أمامى ونظر إلى قائلا:
ــ أنا عارفك.. إنت كاتب مش كده..
ــ أيوه.. أنا كاتب يا أفندم..
ــ أنا بقرأ اللى إنت بتكتبه دايما.. إنت إيه رأيك فى المطار ده..؟
ــ هايل.. هايل والله يا أفندم.. أنا مبسوط..
ــ دخلت الحمام..؟
ــ للأسف لأ..
ــ من فضلك قوم ادخل الحمام..
حوار بهذا الشكل وكل هذه الجدية دفعانى إلى دخول الحمام دون أن أكون فى حاجة إلى ذلك.. للأسف حمام واحد للرجال وثلاثة أحواض للغسل وهناك طابور انتظار.. عدت إلى مكانى باسما، وكأن الرجل ينتظر هذه العودة، فبادرنى قائلا
ــ إحنا دايما كده.. لازم يكون عندنا غلطة.. من فضلك عاوزك تكتب
ولأنى أشاركه الرأى فإنى أنفذ ما أمرنى به، ولا أعرف رد الفعل عند السادة المسئولين عن هذا المطار الحديث البديع المتطور.. ورأيى الشخصى، إذا وجدوا المبررات الكافية للرد.. فسوف تعود ريما إلى عادتها القديمة، ويعود الحال إلى ما كان عليه، ويتشابه الجديد مع القديم، ويتسلل الإهمال خطوة خطوة.. أما إذا قالوا إن الأمر حقيقى حمام واحد لا يكفى.. نقول الأمل موجود
فى مطار «زيورخ»، وهو مطار أشبه بالمدينة كنت أتوقع إجراءات استثنائية وكشفا طبيا وأيضا كنت أتخيل أننى سأرى كل الناس والكمامات على أفواههم، فهؤلاء خواجات لا يعرفون التواكل أو «خليها على الله».. ولكن المفاجأة أنه لا شىء على الإطلاق.. عادى.. عادى جدا.. كل حاجة ماشيه سهلة ومريحة وابتسامة موجودة.. والزحمة موجودة.. أبحث عن شخص لابس كمامة.. أبدا.. مفيش..! وفى مطار نيس، الذى يستقبل هذه الأيام ضيوفا من كل بلاد الدنيا.. من باب الطائرة إلى مدخل الأنبوب إلى مكان تسلم الحقائب.. إلى الشارع.. لم أشاهد ضابطا أو عسكريا أو مفتش صحة.. سيدة من الجمارك ترقب القادمين فى هدوء
مدينة «كان»، فى هذه الأيام تستوعب أكثر من طاقتها.. دور السينما كامل العدد، وكذلك المطاعم والشوارع والمحال.. ولكن الحياة تسير عادى.. عادى.. رغم أن فرنسا أعلنت عن ظهور بعض حالات الوباء.. الأمر الذى جعلنى أتصور أن وزير الصحة الفرنسى مهمل أو مش فاهم أو مقصر فى عمله.. بلد فى الزحمة دى.. ومفتيش كمامة واحدة عينى تقع عليها..؟ ماعلينا
فى رحلة العودة.. مطار نيس عادى زى ما دخلنا زى ما خرجنا.. مطار زيورخ عادى زى ما دخلنا زى ما خرجنا برضه عادى.. فى مطار القاهرة عند الوصول.. المغادرة شىء.. والوصول شىء.. الوصول مرعب.. فيه فزع.. مثل أكمنة الشرطة التى تعدها لاصطياد المجرمين والمخالفين، أقامت وزارة الصحة كمينا مزودا بالحواجز، ومزودا بالحراس وكلهم رغم كثرة عددهم وضعوا الكمامات على أفواههم وهم هناك وهنا وعيون نهمة متنمرة تفتش فى ملامح كل وجه كأنه مطلوب القبض عليه.. وأجهزة تصوير وأخرى لقياس الحرارة.. وبيانات تكتب.. وناس تصرخ.. أول انطباع أصابنى.. هل ظهر الوباء فى مصر..؟! وأخذت أتفحص حالة الهلع المرسومة على وجوه القادمين، خاصة الأجانب..! لماذا كل هذا؟ الإجابة هى.. أننا نحمى البلد.. وهذا حق لا نجادل فيه.. ولكن كيف نحمى البلد..؟ الدبة التى قتلت صاحبها كانت تريد حمايته من ذبابة حطت على وجهه وهو نائم فحملت حجرا وضربت الذبابة التى طارت، بينما تهشم رأس صاحب الدبة
والمؤسف، أنه بعد تخطى الكمين والخروج منه بسلام ترى أكثر العاملين بالمطار وهم يرتدون هذه الأقنعة حتى فى منطقة السوق الحرة.. والمفروض أن أى منطقة بعد الكمين هى منطقة آمنة ونقية.. ونحن ندرك النوايا الحسنة للسيد وزير الصحة.. ولكن ليس هكذا يكون الأمر يا سيدى الوزير.. الأمر فيه مبالغة شديدة.. لا تفيد بقدر ما تضر.. ينقص الوزارة استدعاء حرس الحدود.. لا شك أن هناك طرقا أخرى لضمان الوقاية.. وأنت تعرف يا سيدى الوزير أن مصر بلد مصاب فعلا بوباء إنفلونزا الطيور، وقد ينقل منه إلى بلاد غيره، فهل تقيم حواجز التفتيش هذه وبهذه الصورة المسرحية فى صالات المسافرين كما هى فى صالات القادمين..؟ فى هذه الحالة سيكون مطار القاهرة بكامله حجرا صحيا كبيرا.. وصدق المسافر الذى لا أعرفه.. عندما قال
ــ إحنا دايما كده.. لازم يكون عندنا غلطة
سيدى الوزير وأنا أحمل لك بصفتك الشخصية تقديرا واعزازا لأنك كنت المشرف على علاجى أثناء محنتى الصحية.. أرجوك ابحث عن طريقة أخرى.. أو ابحث عن الغلطة.. أو توكل على الله واسأل زملاءك وزراء الصحة فى البلاد الأخرى.. سؤالا سهلا جدا.. إنتوا بتعملوا إيه عندكم فى المشكلة دى..؟