مصريات
تمر السينما المصرية بفترات ازدهار و فترات هبوط ، لكنها تظل أهم إنجازات المصريين الباقية حتى الآن ، فهي مازالت قادرة على الاستمرار و الإمتاع و الإحباط و إثارة الجدل .. إنها من الأشياء الجميلة القليلة القادرة على البقاء و إثارة المرح و الشغب رغم ما بها من بعض الأمراض و هناك إجماع على أهمية السينما المصرية و تأثيرها في أجيال من العرب و ليس فقط المصريين ، و رغم أن انتقاد سلبيات السينما من الامور الايجابية التي تحث السينمائيين على التجويد و تلافي العيوب ، فإن بعض الانتقادات و الاتهامات التي توجه للسينما تعبر عن حالة من الغباء الشديد و انعدام القدرة على فهم طبيعة الفن السابع و دوره في تشكيل وجدان المجتمع ، و بعض من يتناول السينما من الكتاب و الصحفيين و المتحدثين في القنوات الفضائية صكوا بعض الاتهامات للسينما المصرية التي اصبحت تتردد كأحكام مطلقة على ألسنة كثيرين رغم سطحيتها و سذاجتها .
يقف البعض و يتمطع و يظن أنه جاب الديب من ديله حينما يتهم السينما المصرية بالإسراف في رصد مشاكل المجتمع دون أن يقدم حلا واحداً ، و يصفها هؤلاء بأنها سينما سلبية كثيرة الشكوى تغرق في وصف المشاكل و تصويرها دون أن تقترح الحلول الإيجابية للمشاكل التي تتحدث عنها ، و يتحجج أصحاب هذه المقولة بأن هناك حالات قليلة قامت السينما بهذا الدور ” المثالي” من وجهة نظرهم ، و من هذه الحالات فيلم “أريد حلاً” الذي قامت ببطولته النجمة الكبيرة “فاتن حمامة” عن قصة “حسن شاه” الذي تناول مشكلة الطلاق بصورة أدت إلى تغيير بعض قوانين الاحوال الشخصية في مصر.
و الحقيقة أنه لا توجد سينما في العالم تقوم على أن يقدم السيناريست حلا لكل مشكلة يتناولها في عمله ، فهذا الطلب يحمل السينما ما لا طاقة لها به و يحول دور الفن من الترفيه و الرصد الفني و الإنساني إلى دراسات اجتماعية و سياسية و اقتصادية بعيدة عن روح العمل الفني ، ويعبر هذا الأمر عن خلط شديد بين دور الفن التنويري و دور الهيئات الحكومية في حل مشاكل الناس، و يقول أصحاب هذا الرأي -بقصد أو بدون قصد- لصناع السينما : اخرسوا و لا تتحدثوا عن مشاكل ما دمتم لا تملكون الحل ، و هذا هو الغباء بعينه .
الاتهام الأكثر انتشاراً من إنفلونزا الختازير و أكثر فتكا من إنفلونزا الطيور ، هو إتهام صناع الأفلام بتشويه سمعة مصر بعرض مساوئ المجتمع أو فساده و أيضاً تصوير قاع المجتمع القبيح و العشوائيات بكل ما فيها من قبح و بلطجة و انهيار أخلاقي ، وهذه السينما لا تجد من أصحاب هذا الرأي أي تحية على الجرأة في اقتحام مناطق مؤلمة و حساسة تتجاهلها الحكومة لأنها غير قادرة على حلها ، و لا تجد في عقول هؤلاء أي أفق يستوعب مناقشة قضايا حساسة مسكوت عنها مثل أطفال الشوارع و الختان و الشذوذ الجنسي و العنف و كأن السكوت عن مثل هذه القضايا سوف يحلها بمعجزة…المهم أن تبقى صورة مصر نظيفة و صفحة مجتمعها ناصعة البياض حتى و لو بالكذب و التجميل و النفاق و تهمة الإساءة لسمعة الوطن التي يطلقها البعض دون وعي ، و هي تهمة تنتمي في الأساس إلى نوعية التهم التي تطلقها الأجهزة البوليسية لترويع المثقفين و الفنانين .
أما اتهام السينما الجادة بأنها غير نظيفة تروج للانحلال الاخلاقي و العرى من خلال رصد الشخصيات الشاذة و المنحلة أو غير السوية فهو اتخام ظالم و مجحف ، فإذا ظهرت صورة رجل شاذ في فيلم أو فتاة سحاقية كانعكاس للموجود في الواقع ، فلا يعني ذلك أن السينما تروج للشذوذ و إذا ظهرت شخصية عاهرة أو فتاة مستهترة فلا يعني أن السينما تروج للانحلال ، و رغم أن واقع السينما يتعامل مع شخصيات الحياة و البشر ، فالبعض قد يقبل تصوير اللص و القاتل و النصاب في السينما ، لكنه ينزعج من أي شخصية درامية لها مشكلة تتعلق بالجنس و لا يعني عجز بعض صناع الأفلام عن تقديم أفلام ذات قيمة فنية و لجوئهم إلى الاثارة الجنسية أو البذاءة كوسيلة لجذب الجمهور أن كل السينما المصرية ” أبيحة” و قليلة الادب ، فهناك خلط شديد بين الفيلم العائلي الموجود في العالم كله و الذي يراعي مناسبة موضوعه و تفاصيله للأطفال و المراهقين و بين الفيلم الذي يقدم لجمهور من الكبار لديهم من النضج الكافي التعامل مع الموضوعات الحساسة التي ترصد و تكشف الحقيقة مهما بدت مخجلة .
علاقة السينما و الدين تمثل الحساسية الأكبر لدى الشريحة الأكبر من المجتمع فيكفي أن يطلق شخص ما على فيلم ما أنه يعادي الدين حتى يتحول صناع الفيلم من خانة الفنانين الى خانة الكفار ، فإذا ظهرت شخصية فتاة محجبة يتوقع الجميع أنها يجب أن تكون ملاكاً طاهراً بجناحين ، و إذا حدث العكس يتم تأويل الأمر على أنه إهانة و تشويه للمحجبات و إلى الدين الاسلامي ، ومن المحرمات المتوارثة مثلا تقديم الشخصية المسيحية بصورة إنسانية تحمل الخير و الشر و مناقشة مشاكل إنسانية لشخصية مسيحية يصبح أمراً محفوفاً بالمخاطر قد يصل إلى الاتهام بتعمد إهانة الدين المسيحي ، و هي أمور تعرضت لها أفلام مثل “واحد صفر” و قبله “بحب السيما” .
أما أغرب الاتهامات التي توجه للسينما المصرية فهي تلك التي تصل أحيانا إلى ساحات القضاء من أصحاب مهن معينة يرون أن السينما شهوت صورتهم ، و لا يفرق هؤلاء بين رسم شخصية درامية خيالية أو حتى اقتباس شخصية سيئة من الواقع لتضم إلى عمل درامي و بين تعميم الرأي في طائفة معينة ، هناك عشرات الاتهامات للسينما بتشويه صورة المحامي و المدرس و الطبيب .. منها اعتراض مجموعة من الاطباء مؤخرا على قيام المطربة مروى بتجسيد شخصية طبيبة في فيلم “دكتور سيليكون” و كانت المشكلة أن ملابس مروى لا تتلائم مع ملابس طبيبة ، و وصل الأمر الى أن أسرة بلطجي رفعت قضية على صناع فيلم “ابراهيم الابيض” تتهمهم فيها بسرقة قصة حياة مسجل خطر يحمل الاسم ذاته و من الوارد أن تقوم رابطة البلطجية باتهام الفيلم بتشويه صورة البلطجية و المسجلين خطر ؟ّ!
إيهاب التركي