الحياة لا تنتهي بالموت
د.حازم الببلاوي
لا جدال في أن الموت هو أحد أكبر الألغاز التي واجهت الإنسان, وهو يمثل الصدمة الكبري التي تواجه الفرد حين يختفي أحد المقربين له. والسؤال هي تنتهي الحياة بالموت فعلا؟ وهل الموت هو نهاية الحياة ؟
لا أقصد بذلك التعرض هنا لمفاهيم الحياة الأخري والبعث والحساب, ولكني أتساءل عن شيء ملموس هنا علي الأرض, وليس فيما وراء الظاهر. وهل الموت ينهي الحياة فعلا, أم أن الحياة أقوي من الموت, وأنها تستمر مع ذلك ـ علي الأرض ـ بما يتركه الفرد من ذرية. بل إن حياة الفرد ذاته ليست حتي خاصة به, وإنما هي موروثة ومستعارة من أجداده الذين أورثوه جيناتهم فحياة الفرد هي حياة الجينات التي يحملها جسده, وهي ليست جديدة بل مورثة منذ بدءالحياة حيث يورثها كل جيل للجيل التالي, مع ما يلحقها من تغيرات وتطورات نتيجة لاختلاط الجينات بين الآباء والأمهات من ناحية, فضلا عما يمر بها من طفرات وتغيرات عند تكاثرها وتجددها من ناحية أخري. ولكن أليس من الضروري أن نبدأ بتعريف الحياة نفسها حتي يمكن أن نجيب علي السؤال, ومعرفة ما إذا كانت هذه الحياة تنتهي فعلا بالموت أم أنها تستمر رغم هذا الموت, بل لعلها تزدهر وتتوسع وتتنوع من خلال تتابع الأجيال التي تحمل هذه الجينات الموروثة؟ هناك تعريفات متعددة للحياة من الشعراء والأدباء والحالمين والمفكرين, كما أن هناك تعريفات أخري من العلماء الذين يدرسون الحياة كمظهر للعلم الوضعي التجريبي.
ولعل أشهر ما كتب عن تعريف الحياة من جانب هؤلاء العلماء, هو ما ينسب إلي الفيزيائي النمساوي إرفن شرودنجر في محاضرات ألقاها في دبلن عام1943. وهو يبدأ تعريفه بملاحظة أن كل شئ في الكون يتجه نحو التحلل والتآكل وأن الحياة هي علي العكس, مقاومة لهذا التحلل. فالحياة بهذا الشكل هي مقاومة للاتجاه الطبيعي للأشياء نحو الفوضي الأمر الذي يعرف في علوم الفيزياء بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية. فالكائن الحي لايتجه إلي التحلل وإنما, علي العكس للنمو والإزدهار. فالكائنات الحية تحول الغذاء الذي تأخذه من البيئة إلي طاقة تمكنها من مقاومة التحلل مع إمكان تحقيق النمو. وهكذا فإن الحياة ـ عند معظم الفيزيائيين ـ هي مظهر لمزيد من التنظيمorder والتركيب والتعقيدcomplexity في مواجهة اتجاه طبيعي للفوضي والتحلل في الأشياء غير الحية. وعلي عكس الفيزيائيين, فإن علماء البيولوجيا يركزون في تعريفهم للحياة علي القدرة علي التناسلreproduction والاستنساخ, فالكائن الحي يكرر نفسه من خلال ذريته التي يورثها خصائصه فيما ينقله إليها من جينات وهكذا فإنه بإدخال الوراثة في تعريف الحياة فإنها تصبح قوة عاتية تعصي علي الموت. فالفرد
قد يموت وينتهي وجوده المادي ولكن جيناته تستمر في الوجود بل وتتوسع وتزدهر مع الأجيال الجديدة. فالخالق برحمته يميت الإنسان ولا يقتل الحياة, أوليست قصة النبي نوح إلا تعبيرا عن هذا المعني بإنقاذ جينات الكائنات الحية ؟ وإذا كان عمر الأرض يقدر بأقل قليلا من خمسة بلايين سنة, فإن بداية مظاهر الحياة ـ في صورها البدائية للبكتيريا ـ وجدت منذ ما يزيد علي ثلاثة بلايين سنة, ومنذ نحو أربعمائة مليون سنة ـ علي الأقل ـ بدأت الكائنات الحية تحمل نفس الجينات المستمرة حتي وقتنا الحالي, وإن عرفت تطورا هائلا وطفرات متعددة في أشكال متعددة من الكائنات التي تحمل هذه الجينات. فالكائنات الحية المعاصرة ـ حيوانية أو نباتية ـ تحمل نفس الجينات التي كانت موجودة منذ أربعمائة مليون سنة, وإن اختلف ترتيبها وتنظيمها وتعقيدها. وقد عرفت هذه الجينات في كثير من المراحل طفرات متعددة, لكنها تظل وريثة الجينات الأولي واستمرارا لها, وإن اختلفت الأجساد التي تحملها. وهذه الجينات هي جوهر الحياة, وهي مستمرة غير عابئة بالموت الذي يلحق حامليها بين الحين والآخر, فهي تنتقل بالوراثة بين الأجيال.
وبذلك فإذا كانت معركة الحياة والموت هي معر كة الجينات, فإن آلحياة تكون أقوي من الموت وتجاوزه عن طريق ماتورثه من جينات لنسلها. فالانسان ـ مثلا ـ يولد نتيجة تخصيب الحيوان المنوي للأب للبويضة التي تفرزها الأم, وكل منهما يحمل جينات الأب أو الأم, ويأخذ الطفل جيناته مناصفة من الأب والأم, فهو استمرار لهما في جسد جديد. ولكنه يرث كذلك في الوقت نفسه جينات كل أجداده من الطرفين, فما يرثه عن الأب والأم ليس إلا إعادة توزيع لميراث سبق أن حصل عليه والداه. وهكذا فإن كل فرد منا ليس فقط وريث أبيه وأمه فيما يحمله من جينات, بل هو وريث كل أجيالهما السابقة, وهو بالتالي وريث البشرية جمعاء, كما أنه ـ بشكل ما ـ شقيق لبني البشر أجمعين. فالحديث عن وحدة البشرية ليس تعبيرا مجازيا أو بلاغيا, وإنما هو تعبير عن حقيقة بيولوجية. وليس معني ذلك أن الجينات وهي تنتقل من جيل لآخر لا تعرف تغيرات أو طفراتmutation, فهذا جزء طبيعي من عملية التكاثر والتوارث, ولكن تظل الحقيقة هي أننا جميعا ننهل من مجمع واحد للجينات.
فالموت وهو يقضي علي الأفراد فإنه لايفلح في القضاء علي الحياة نفسها التي تستمر باستمرار الجينات بين أفرادالبشر. بل انظر إلي الوليد الذي يبدأ بنطفة تتكون من خلية وحيدة تجمع بين جينات الأب والأم, ولكن هذه الخلية الوحيدة ما تلبث أن تتكاثر حتي يستكمل الوليد تكوينه في بطن الأم. وبعد المولد فإن هذه الخلايا التي تكون هذا الطفل لاتظل علي ما هي عليه بل تبدأ في الموت والتجديد والتكاثر. فتتكون خلايا الجسم من نوعين: أحدهما يجدد باستمرار وهو ما يعرفgermcells, والنوع الآخر لايتجدد ويصاحب الانسان منذ مولده حتي وفاته ويعرفsoma. ويتركز هذا النوع الأخير في خلايا المخ والقلب والكلية, أما باقي خلايا الجسم فهي تموت وتتجدد باستمرار. ومعني ذلك أن الانسان ـ في أثناء حياته ـ يجدد معظم خلايا جسمه كل ثلاث أو أربع سنوات, ليصبح كائنا جديدا بخلايا جديدة, ولكنها وريثة الخلايا القديمة وتحمل خصائصها. فالإنسان يكاد يتجدد كل ثلاث أو أربع سنوات بخلايا جديدة,
والشيء الوحيد الذي يضمن استمراريته هو أن الخلايا الجديدة ترث خصائص الخلايا القديمة, فضلا عن أن المخ والذاكرة يحتفظان بكل الذكريات الواعية وغير الواعية, مما يطي الانطباع بالاستمرار وعدم التغيير. وهكذا فعلي الرغم من أن معظم الخلايا في جسد الانسان تموت وتتجدد دوريا ويستبدل بها خلايا جديدة بنفس الجينات, فإن موت هذه الخلايا لايعني نهاية الانسان, بل إن حياته مستمرة مع هذه الخلايا المتجددة, ثم تنتقل جيناته بعد ذلك بالوراثة من جيل لآخر. الحياة هي أقوي الأشياء علي الأرض وأكثرها قدرة علي الصمود والبقاء والاستمرار.
ولذلك يمكن أن نقول إن الحياة لاتنتهي مع الموت. فالموت يصيب الأفراد وأجسادهم, ولكن الحياة تستمر من خلال استمرار الجينات بالوراثة. فالانسان يموت, ولكن الحياة تستمر مع نسله, وهؤلاء هم استمرار لحياته وحياة والديه وأجداده وأسلافه. فالحياة مستمرة برغم الموت, بل إن الموت نفسه عنصر لدعم الحياة وتقويتها. فبالموت نتخلص من الأجساد البالية والعتيقة ليحل محلها الجديد والشاب الذي يحمل نفس الجينات. وهو ليس جديدا تماما, وإن جاء بحلة جديدة وجسد شاب. وبهذا الإحلال يكون الجديد أكثر قدرة علي الإبداع والتعايش والتطور. وهكذا ظهرت الشيخوخة لأن هناك حاجة متجددة إلي شباب جديد. فالتكاثر ليس نزوة لمجرد تحقيق الزيادة العددية, وإنما هدفه إحلال الجديد محل القديم, والذي ليس جديدا بالكامل بقدر ما هو استمرار للقديم بجميع خصائصه, وان كان بشكل أكثر تنوعا وانفتاحا. فالموت نوع من العمرة أو الترميم للجينات, وبالتالي للحياة بإعادة الشباب لها لتجديدها بخلايا جديدة ونظيفة مع استمرار نفس الجينات الموروثة. وبغير الموت لن يكون هناك جديد وتجديد, وتصبح الحياة مملة ورتيبة وغالبا كئيبة.
كما أنه بغير الشيخوخة لن يكن هناك شباب, وبالتالي آمال وطموحات. الموت حماية للحياة ودعم لها بنبض جديد ومستمر. ألا ما أبدع حكمة الخالق في الحياة والموت. والله أعلم.
* نقلا عن جريدة لأهرام المصرية