مصريات – كتبت أسماء نصار: كانت الشخصية المصرية مثار فضول دائم من قبل العديد من الشخصيات الاستشراقية.. فبين الرصد العقلانى والرصد الاستعمارى والرصد «القصصى» الذى اختلط فى العديد من جوانبه بحكايات «ألف ليلة» تنوعت التحليلات الغربية للعادات والتقاليد والشخوص المصرية.. اعتبرها البعض ثائرة، واعتبرها الآخرون خانعة، تصوروها سهلة الطوية، ورآنا البعض شعبا لا يحكم إلا بالحديد والنار! لكن – وبشكل إجمالى – يبقى السؤال الأهم: هل اخترقت الكتابات الاستشراقية الشخصية المصرية بالفعل واستطاعت أن تحللها بدقة – على الأقل – فى جزء من جوانبها المتعددة؟ د. محمد عنانى – أستاذ الأدب الإنجليزى – قال: إن الكتاب العمدة فى هذا الشأن هو كتاب «عادات المصريين المحدثين وأخلاقهم» الذى أصدره الكاتب الإنجليزى إدوارد لين عام 1828 الذى جاء إلى مصر عام 1821 للاستشفاء بعد أن أصيب بمرض صدرى، ونصحه الأطباء بجو جاف دافئ مثل مصر.
فجاء لين لمصر فى عهد محمد على، وكان رساما، وأثناء تواجده بمصر قام بعمل مجموعة من الرسومات وعاد بها إلى إنجلترا عام ,1828 وعرضها على إحدى الجمعيات، التى تكفلت بإعادة إرساله إلى مصر على نفقتها، على أن يقوم بإعداد كتاب عن مصر آنذاك، بعد أن انبهروا برسوماته، حيث كانت مصر آنذاك منفصلة عن التاريخ الحديث بما يقرب من 700 سنة، وكانت تحتفظ بطابع القرون الوسطى، فظهرت الجمال والخيل والبغال، بالإضافة إلى الآثار.. وظهرت الصحراء والبداوة جنبا إلى جنب مع محاولات التحديث التى قام بها محمد على آنذاك، فبدت مصر وكأنها سيدة تنظر من نافذة إلى الماضى، خاصة بعد أن جاء نابليون بونابرت إلى مصر غازيا، وأصدرت حملته كتاب «وصف مصر» عام .1809 وفى كتاب المصريين المحدثين اهتم إدوارد بالشخصية المصرية وتنويعات الوجود التركى والألبانى والمملوكى، حيث كانت هناك توليفة كبيرة من جنسيات مختلفة تمسك بزمام الأمور والسلطة! فحاول إدوارد أن يجتذب المصريين إليه ويبين كم يعانى هؤلاء أصحاب الأرض من الظلم والقهر. ولكن أهم ما ميز الكتاب – وفقا لعنانى – هو أن «لين» وضع يده على خصيصة جوهرية فى الشخصية المصرية هى الإيمان بالله والثقة تماما فى الآخرة، أما الصفة الثانية فهى الصبر، وأن المصرى قد اكتسب هذه الصفة نتيجة عمله بالزراعة وانتظاره حتى يجنى المحصول، فتعلم أن الطبيعة لها قوانينها التى لا مجال للتدخل فيها، وأوضح «لين» أن الصفة الثالثة التى ركز عليها هى إيمان المصرى بالخرافات، لأن الجهل كان مطبقا على المصريين آنذاك، ولم يكن هناك مجال للتعليم!
ويضيف عنانى: من هذا الكتاب استمد يوسف إدريس مقولته بأن المصرى تعرض على امتداد تاريخه للقهر، وهذا ما جعله يتقبل القيد ويتحلى بالصبر، حيث أكد«لين»على هذه الفكرة قائلا: كنت أسير فى الشارع فوجدت مصريا يأكل على جانب الطريق، فمر مملوكى يمتطى جواده فقام له المصرى خوفا واحتراما، فإذا بالمملوكى ينهره قائلا: هل تخافنى وتحترمنى أكثر مما تحترم نعمة الله، وأمر المملوكى بقطع رأس المصرى فى الحال. ويعلق عنانى على هذه الصورة قائلا: هذا من مفاتيح الشخصية المصرية التى لم ترحل حتى الآن، وهذا السبب وراء شعور المصرى الدائم بأنه مظلوم لسبب ما، منتقلا للحديث عن كتاب آخر كتبه الإنجليزى «كينج ليك» فى عصر الملكة فيكتوريا عن رحلته إلى مصر وأطلق عليه اسم «الأسطورة»، وصف فيه التطور الذى حدث لمصر فى عهد محمد على، والنهضة التى حدثت فى عهد إسماعيل باشا الذى كان يحلم بأن تصبح مصر قطعة من أوروبا، حيث ظهرت لأول مرة فى تاريخ مصر جريدة «الوقائع المصرية»، ولأول مرة أيضا بدأت تظهر المجالس النيابية التى تشبه مجلس الشورى الآن، وشهدت تلك الفترة خروج أول مظاهرات شعبية تذهب للحاكم وتطالب بالإصلاح. «ليك» بدأ يرصد فى هذا الكتاب بوادر تغير الشخصية المصرية وأنها لم تعد الشخصية «الخانعة المقهورة»، وإنما اتخذت خطوة للأمام. ويلفت عنانى إلى أن مشكلة هذا الكتاب هى أنه عندما تحدث عن نماذج بعينها من المصريين لم يستخدم نماذج تمثل المصرى خير تمثيل، وإنما استخدم نماذج تعجبهم وتثير فضولهم فى الغرب مثل السكارى والبائعين الجائلين والدلالات.. فقد كانت الأسواق الشرقية فى نظر الغرب آنذاك عجب العجاب!
ويقول عنانى: أما الكتاب الحاسم فعلا فى وصف الشخصية المصرية فهو كتاب «مصر الحديثة» الذى كتبه اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى فى مصر من 1883 إلى ,1907 الذى توفى عام 1917 ووقعت فى عهده ,1906 حادثة دنشواى الشهيرة! فعندما صدر كتاب مصر الحديثة فى مارس 1908 أثار ردود فعل كبيرة، وهاجمته بشدة كل من جريدتى «اللواء» و«المؤيد»، فمثلا كتبت جريدة المؤيد: «لم يكن اللورد كرومر من رجال العلم والفلسفة، ولا من رجال التأليف، إنما كان جنديا يؤمن بمجد الإمبراطورية، ونظرته استعمارية تنبع من وجهة نظر سيطرة بريطانيا، وهى قائمة على كراهية الشرق والعرب والمسلمين واحتقارهم، والإيمان بأن الرجل الأبيض له حق تمدينهم»! لكن ما يميز الكتاب حقا – والقول لعنانى – هو أن كرومر سجل الوقائع كما رآها فى ظل حقبة مهمة وعصيبة من تاريخ مصر، حيث كانت مصر ممزقة بين خضوعها للاحتلال الإنجليزى فعليا وتابعة رسميا للدولة العثمانية، وكانت أشبه بالرجل الذى يتخذ زوجتين، فالمصرى لابد أن يدين بالولاء للسلطان العثمانى خليفة المسلمين فى حين يحكمه الحاكم الإنجليزى بالحديد والنار، أما الكاتب فلم يكن بصورة عامة موضوعيا فى كثير من الأحيان، حيث سيطرت عليه الصورة الاستعمارية، وكان المصرى من وجهة نظر كرومر ماكرا ومخادعا ويتمتع بدهاء، ولا يمكن السيطرة عليه إلا بالقوة والعنف! وكتاب مصر الحديثة رغم أهميته المعلوماتية إلا أنه عبر عن وجهة نظر استعمارية بحتة، بينما عبر كتاب المصريين المحدثين عن وجهة نظر محايدة و،عبر كتاب «وصف مصر» عن وجهة نظر إيجابية جدا، ووصف المصرى بأنه عنيد لا يقبل الظلم.. فقد تأثر علماء الحملة بثورة المصريين ضد القوات الفرنسية! ويتابع عنانى: يذكر أنه فى نفس الفترة كتبت الأميرة جويدان زوجة الخديو عباس الثانى الذى حكم مصر عام 1892 بعد وفاة والده الخديو توفيق – فى ذروة نفوذ اللورد كرومر المعتمد البريطانى فى مصر – مذكرات تحمل نكهة خاصة باعتبار أنه من النادر للغاية أن تكتب زوجة حاكم مصر فى ذلك الزمن مذكراتها، كما أنها – أى جويدان – لم تقتصر فى تلك المذكرات على النواحى السياسية، بل تناولت قضايا اجتماعية عديدة كالحريم والمرأة وحفلات الأعراس وغيرها من الأمور كما تحدثت عن عقلية زوجها التجارية واهتمامه بالمال والتجارة وتنمية ثروته أكثر من أى شىء آخر.
المصرى الجديد! بصفة عامة فإن الصورة السيئة عن المصرى التى تركها كتاب كرومر لدى الغرب تغيرت ولعب دور كبير فى تغييرها مصطفى كامل، الذى كان نموذجا للمصرى الجديد الشاب الذى يتحدث الإنجليزية، والفرنسية، بطلاقة ويأسر بخطبه الأسماع، وبدأ الرأى العام الشعبى فى أوروبا يتعاطف مع المصريين، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى اهتم العالم كله بمصر باعتبارها حلقة اتصال فى الحرب الدائرة، وبدأ الكتاب الأوربيون يرصدون التطور الذى حدث فى مصر.. وبعد ذلك صدر لأول مرة دستور 1923 وظهر شىء جديد اسمه الجنسية المصرية.. فقبل ذلك كان المصرى مجرد تابع للدولة العثمانية مثلا، وقد أحدثت تلك الخطوة طفرة جوهرية فى التصور الغربى، عندما اكتشف الأثرى «كارتر» مقبرة توت عنخ أمون عام ,1921 وبدأ العالم يتحدث عن مصر الحديثة باعتبارها امتدادا لمصر الفرعونية، فأظهرت الكتابات المصرى على أساس أن لديه أنفة وكبرياء وأنه قادر على صنع المعجزات والأعاجيب وميزوا بينه وبين العربى، وأزالوا عنه صفة البداوة والتخلف، وتجاهلوا المرحلة العثمانية وحكم الأتراك والمماليك، وأصبح المصرى ما هو إلا فرعون صغير، ويتم التعامل معه على أساس أنه مواطن عالمى. ؟ استقرار لا خضوع! المترجم بشير السباعى تحدث عن كتاب للمؤلف الأمريكى «تيموثى ميتشل» عن أحوال مصر الراهنة، وصدرت ترجمته العربية سنة 1991 بعنوان «مصر فى الخطاب الأمريكى» تناول فيه مشكلات المصريين من منظور مختلف للرؤية الأمريكية التى ترى أن صميم مشكلة المصريين هى التباين الواضح بين الانفجار السكانى وبين الجغرافيا، حيث يتركز الناس حول وادى النيل. بينما يرى ميتشل أن هذا الكلام غير صحيح، وأن مشكلة المصريين تتلخص فى البعد الخاص بتوزيع الثروة والتفاوت الاجتماعى الحاد بين شرائح المجتمع المصرى. أما الكاتب صلاح عيسى فقال: إن كتاب «وصف مصر» الذى كتبه علماء الحملة الفرنسية يركز على صفة عدم فاعلية المصريين وتواكلهم بشكل مثير للانتباه، وإن كتاب «المصريون المحدثون» لإدوارد لين يكاد يكون جزءا من كتاب وصف مصر لكن ما يميز هذين الكتابين هو رصد العادات والتقاليد بشكل جيد، وذلك لأن العين الغريبة تلتقط أشياء قد لا يراها المؤرخ الذى يعيش داخل البلد، مضيفاً: هناك انطباع أخذه علماء الحملة الفرنسية عن المصريين هو أنهم شعب لا يعتنى بالنظافة وتعامله مع الشارع ليس كتعامله مع بيته، وأنه ليس لديه إحساس بأن البلد بلده، ويسيطر على المصرى نوع من الفردية والأنانية ويهتم بشخصه وذاته أكثر من أى إنسان، ويهتم بأقاربه ومن ينتمون إليه أكثر من المصريين الذين لا ينتمون إليه! ويرى عيسى أنها ملاحظات لم يكن فيها قدر كبير من التجنى، لأن نفس الملاحظات رصدها سعد زغلول عن الشخصية المصرية فى أحد كتبه، ولكن صفة الاستكانة والخضوع التى كتب عنها بعض المستشرقين تنم عن جهل وسطحية بطبيعة تركيبة المصرى الذى لديه رغبة قوية فى الاستقرار.. متابعاً: هناك مؤرخ اسمه أرنوس توينبى له كتاب شهير اسمه «التحدى والاستجابة» يقول إن النيل هبة المصريين، وليس مصر هبة النيل، كما قال هيريدوت، وقد استعار منه محمد شفيق غربال هذا المعنى فى كتابه «تكوين مصر»، والفكرة تقوم على أن مصر كانت مستنقعة تغمرها مياه النيل، وأن المصريين هم الذين حفروا مجرى النيل بمجهودهم وكفاحهم وتلك صورة تناقض تماما فكرة الخضوع والاستكانة والقبول بالقهر الذى تحدث عنه العديد من المستشرقين!
منافقون.. والله أعلم! الأديب إبراهيم أصلان قال: إن هناك كمًّا لا يحصى ولا يعد من الكتب التى كتبها المستشرقون عن الشخصية المصرية، ولكن السمة الرئيسية التى ركز عليها معظم الكتاب هى أن المصرى يعانى من عقدة النفاق، فالنفاق خصيصة مستقرة فى الشخصية المصرية وترجع لحقب القهر والطغيان والاحتلال التى عانى منها المصرى لقرون طويلة، بالإضافة لغياب العدل الاجتماعى.. فالنفاق أصبح يمارس فى المجتمع المصرى بشكل لا إرادى وكأنه أصبح طقسا يوميا، وهناك صفة أخرى ركز عليها المستشرقون وهى الانحراف فى العاطفة، لكن هناك مستشرقين آخرين متيمين بالشخصية المصرية. ووفقاً لأصلان تبقى هناك إشكالية مهمة فيما يتعلق برؤية الآخر لنا، وهى أنه إذا لم يكن المصرى محترما داخل بلده ويحظى بحقوقه الآدمية وبقيمة إنسانية عالية فمن المستحيل أن ننتظر أن يحترمه الآخرون! الأديب الكبير جمال الغيطانى يرى أن أشهر كتاب كتب عن الشخصية المصرية هو كتاب «المصريون المحدثون» لإدوارد لين وأن ميزة هذا الكتاب هى أنه وكتاب «وصف مصر» حفظا لنا الكثير من العادات والتقاليد التى كانت موجودة فى تلك الحقبة، لافتاً إلى أن هناك كتابا آخر اسمه «المصريون فى مصر العليا» كتبه بلاكمان فى النصف الأول من القرن العشرين، ويتحدث عن «الصعايدة».. حلل الشخصية المصرية أيضاً من خلال ما تبقى من العادات والتقاليد الخاصة بالحضارة الفرعونية فى الصعيد.
ويشدد الغيطانى على أن هناك مشكلة تخص الكتب التى تتحدث عن المصريين هى أن معظم كتب الرحالة والتى كتبت عن مصر والشخصية المصرية غير مترجمة من حيث الأصل.. فمثلاً المعهد الفرنسى بالمنيرة لديه أكثر من 30 كتابا غير مترجم عن رحلات أوربيين فى مصر، ويتحدثون عن المصريين والشخصية المصرية، منهم كتاب لـ«فلوبير»، وآخر للكاتب الأمريكى «مارك توين».. ولا يعرف أحد عنها شيئا رغم أنه قد يكون لها تأثير بالغ لو تمت ترجمتها.. فالسمة العامة للمستشرقين والكتاب الأجانب عندما يكتبون عن مصر هى أنهم يتحدثون عن مصر التاريخية أكثر من مصر المعاصرة!؟