مصريات
ماجد محمود
الليل في السجن طويل.. وكئيب.. المجرمون المحترفون ليعانون.. السجن يبدو أحيانا مثل بيتهم وواحتهم المفضلة.. لكن مأساة السجن ليشعر بها غير واحد من اثنين.. بريء اخذه حظه العاثر الى خلف الأسوار العالية.. أو مجرم يدخله لاول مرة.. الايام الاولى رهيبة، مزعجة، مقلقة، لكن لمن يدخل السجن لاول مرة.. الليالى التالية تدريب على الصبر والاحتمال.. والتعود.. هكذا يقول المجربون والمخضرمون والعالمون ببواطن الأمور في عالم السجون.. بعض النزلاء مثلا تبدأ ألفتهم للسجن بعد شهر واحد.. البعض الآخر ليألفه قبل ثلاثة أشهر.. الذين تعودوا السجن ابتكروا جملة شائعة يقولون فيها “السجن للجدعان” يدارون بها خيبتهم ويغطون بحروفها على جرائمهم.. وهؤلاء يسخرون دائما من النزلاء الجدد الذين تهتز اطرافهم وتتساقط دموعهم وتشتعل احزانهم حينما يسدل الليل ستائره وتسكن الحركة وتغلق الابواب في الليلة الأولي.. الأبرياء والمحبوسون احتياطيا يسمون هذه الليلة بليلة الوحدة.. ورغم قسوة القيود وفراق الاحباب وخزي الايام التي يعيشها النزلاء لكن كثيراً ما يضحكون ولو كانت في عيونهم الدموع.. إلا ان “اسماعيل” لم يكن ابدا واحدا من هؤلاء.. لم يألف السجن رغم خمسة شهور كاملة قضاها في عنبر المحبوسين احتياطيا.. لم يختلط بالنزلاء ولم يصادق منهم مجرما أو بريئا.. اعتزل الجميع وعاش نهاره وليله ممسكا بالقرآن الكريم يتلو ما يحفظ من السور واليات ويحفظ مانساه أو باعدت المشاغل بينه وبين حفظه في دوامات الحياة التي لاتنتهي.. يصلي فروضه الخمسة مع الأبرياء.. ربما كان إسماعيل في أمس الحاجة الى هذه التجربة رغم قسوتها فلم يكن يصلي أو يتعبد ويتلو القرآن ويتأمل خلق السموات والأرض وحكمة العدل والظلم مثلما ينتظم داخل السجن في كل هذه العبادات والتأملات.. وكأن الانسان يحتاج دائما الى محطات تقوي يمانه وتختبر قدراته على الصبر وتحمل الابتلاء.. وما السجون إلا واحدة من اقوى هذه المحطات في حياة بعض الناس الذين كان منهم اسماعيل.. أو الشيح اسماعيل كما اطلق عليه نزلاء السجن وهو الذي يسميه أهل الحي في شبابه المبكر “كازانوفا الحتة”..في الليلة السابقة على احدى الجلسات الساخنة التي كانت تنظر فيها المحكمة قضيته لم ينم اسماعيل.. ليلة شتوية عاصفة.. البرد يختمر العظام والاجساد تنتفض وكل النزلاء اختفوا تحت البطاطين الصوفية، وبقي اسماعيل ساهرا.. ساهدا.. عيناه معلقتان بنافذة العنبر تتمنيان لو انطلقت من هذه النافذة الى عالم الاحرار الذي بات بعيدا.. شعر اسماعيل في تلك الليلة ان الدنيا تبرأت منه، والناس اسقطوه من ذاكرتهم، واهله في قريته يتمنون موته فهو أول من يدخل السجن من ابناء هذه القرية الصغيرة الوديعة في قلب الصعيد.. جاء اسماعيل الى القاهرة لاول مرة ليتلقي تعليمه الجامعي.. وفي العاصمة انشغل بالعمل والبحث عن عروس ومغازلة الحسناوات والتردد على دور السينما والمسرح وحفلات الغناء.. كأن يعوض مافاته من سحر المدن طوال عمره في الصعيد..
وقبل سبعة أشهر فقط عاد الى قريته دون مقدمات.. فوجئ به أهل القرية يظهر بينهم في الصباح.. ابلغهم انه وصل ليلا بسبب تأخر القطار.. وقبل ان يسأله المتطفلون عن سبب اقامته يوما بعد يوم اسرع يبلغهم انه جاء للنقاهة والاستشفاء بعد مرض طويل.. تعاطفوا معه، لكن الخبثاء منهم كان يقسم باغلظ اليمانات ان اسماعيل ليس هو اسماعيل.. وكان الحاج حماد يفتتح حديث المصطبة كل ليلة قائلا: “الواد اسماعيل ياجماعة كأنه وبعض الظن اثم عامل عاملة سودة.. ومالم يكن احد يعلمه هو ان اسماعيل حينما حضر والقرية غارقة في الظلام كان بصحبته “المعلم ابوقمر” صاحب المخبز الكائن اسفل منزل اسماعيل في القاهرة.. وكان المعلم قد هرب من العدالة بعد ان قتل زوجته، وقصد المعلم اسماعيل ليخبئه.. حاول اسماعيل ان يقنع المعلم ان هروبه قد يضره وان تسليم نفسه قد يكون في صالحه.. لكن المعلم العجوز رفض باصرار.. كان يبكي مثل الاطفال كلما تذكر عشماوي.. ورغم عدم اقتناع اسماعيل بموقف المعلم لم يستطع ان يرفض طلبه، فالرجل انقذ اسماعيل من قبل من السجن بتهمة اصدار شيك بدون رصيد بينما كان اسماعيل طالبا بالجامعة.. كان مستقبله كله مهددا بالضياع، لكن انشقت الارض عن المعلم ابوقمر في اللحظة الاخيرة.. سدد مبلغ الشيك ورفض ان يتقاضي من اسماعيل شيئا حتى يتخرج ويلتحق بوظيفة.. ومرت الايام وها هو المعلم يطلب من اسماعيل ان يمد له يده.. اصطحب اسماعيل المعلم ابوقمر الى بلدته واخفاه عن العيون.. بل وكثيرا ما كان يشعر بأنه يتعاطف مع “المعلم” قاتل زوجته.. لقد ضبطها متلبسة بالخيانة.. لكن صديقها هرب ففشل في اثبات الزنا عليها وبرأتها المحكمة.. لم تبرد نار المعلم.. ظل بناره حتى تمكن منها وقتلها.. ثم تذكر انه رجل محترم اخطأ مرتين.. تزوج من فتاة في عمر بناته بعد ان رحلت زوجته عن الدنيا.. وقتلها في لحظة نسي فيها قسوة السجن والموت على يدي عشماوي.. فكانت النتيجة ان هرب ليرتكب الخطأ الثالث في حق نفسه وحق اسماعيل.. وفجأة ينطلق صوت المؤذن في مسجد السجن.. “الله اكبر.. الله اكبر”.. تنهمر دموع اسماعيل.. يرفع يداه الى السماء يدعو الله ان يكتب له مخرجا.. وضوء الفجر يصافح نافذة العنبر : “لا إله إلا الله ..ينتفخ صدره بشعور جارف بالارتياح.. يصلي ويفتح المصحف وتتساقط من لحظة لاخرى دموعه فوق صفحات الكتاب المقدس.. تمضي الساعات ويتأهب اسماعيل حينما ينادون عليه للذهاب الى سيارة الترحيلات.. تلمع عيناه ببريق ساحر وهو يتذكر نصيحة والده وهو يموت.. “اسماعيل يا ابني”.. إذا سألت فأسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله”.. ويعلو صوته : “يارب”.
تمر اللحظات بطيئة بعد دخول هيئة المحكمة.. تطالب النيابة باقصي العقاب لقاتل زوجته والمتستر عليه بعد ان تم القبض عليهما معا في بيت اسماعيل.. محاميه يطلب اخلاء سبيل اسماعيل فورا.. وتصر النيابة على موقفها من ضرورة بقاء اسماعيل رهن الحبس الاحتياطي.. وينطق القاضي بالحكم في النهية بحبس اسماعيل 3سنوات لتستره على القاتل.. يضيع مستقبل الشاب المسكين ويبقي مصيره مجهولا.