وليد كامل
الكتابة عنه ورطة كبيرة ، لا يعرفها إلا من أدرك أدبه وتسلل إلى ما بين سطور رواياته واعماله واكتشف سحر وبريق هذا الرجل الذي أدهش العالم بتفاصيل مصرية شديدة الخصوصية عاص فيها الى اعماق القاهرة القديمة ليكتب لنا عن أبطال وبطلات وضعت مصائرهم في اختيارات واختيارات صعبة وقاسية .. أكتب لكم عن الروائي الكبير نجيب محفوظ متكئاً على كتف المصور الصحفي الكبير فاروق ابراهيم في رحلة جديدة ومثيرة نكتشف فيها العالم السري لأديب نوبل الكبير .
في يوم الاثنين الموافق 11 ديسمبر من عام 1911 وفي بيت القاضي بحي الجمالية ولد نجيب محفوظ .. تاريخ الميلاد قد لا يحمل أي معنى ولكن نجيب محفوظ الرجل الذي عاش ومات وأحياء القاهرة القديمة كالجمالية وقصر الشوق وسيدنا الحسين تسكن في أعماقه وفي سطور رواياته .. كنا في نهاية الستينيات ولم أكن أعرفه عن قرب إلى أن اصطحبتني الكاتبة الصحفية الكبيرة ” حسن شاه ” لإجراء حوار معه في مكتبه بالاهرام ومن يومها توطدت علاقة الصداقة بيننا
في ذلك اليوم اكتشفت أن نجيب محفوظ ذلك الرجل الانيق يحمل تحت جلده شهامة أولاد البلد بخفة ظلهم وسرعة بديهيتهم وأن ما يخفيه في أعماقه من آراء وأفكار أكبر بكثير مما يقوله ، وعندما كنت أسأله عن آرائه عائد لخوف من بطش سلطة حاكمة يعارض توجهاتها والحقيقة التي لمستها هي أن نجيب محفوظ ليس له ميل لأن يتصالح أو يتخاصم مع أي سلطة مهما كانت فهو رجل هادئ في طباعه لا يهوى الصدمات أو الانقلابات الحادة ، ويجيد تمرير ما يؤمن به عبر رواياته وكتاباته ، التي لا يستطيع أحد أن يحاسبه عليها فهي تنطق بلسان أبطالها بحسب توجهاتهم وليس بلسانه هو ، وذلك هو منطق نجيب محفوظ الذي عاش ومات وهو يؤمن به .
وإذا استرجعنا السيرة الذاتية لبعض الشخصيات العظيمة سنكتشف أنها صناعة خاصة للأم وكذلك نجيب محفوظ صنعته امه الست فاطمة والتي لم تكن تجيد القراءة والكتابة ، لكنها كانت أرشيفاً كبيراً للثقافة الشعبية وكانت رحلاتها الاسبوعية الى المتحف المصري وإلى عتبات أولياء الله الصالحين والكنائس والاديرة خاصة دير مار جررجس عوناً لذلك الصبي الصغير لمعرفة تراث وطنه بضفتيه المسلمة والمسيحية ورغم جهلها بالقراءة إلا أنها دفعته إليها وزودته بأمهات الكتب والتي كانت رائعة طه حسين الايام على رأس قائمة طويلة من الاعمال التي تأثر بها نجيب محفوظ ودفعته الى تقليدها وكتابة مذكراته الشخصية وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره وأعطى لها عنوان ” الاعوام ” وهي صفحات مجهولة في تاريخه لا يعرفها أحد وهو لم يتكلم عنها .
نجيب محفوظ قبل زواجه عاش حياة صعلكة وعربدة كانت له نزواته التي لن أتكلم عنها لأنها أشياء تخصه وحده وهو الآن في ذمة الله ، ولكن كانت له قصة غرام طريفة ، فعندما انتقل للسكن في حي العباسية كانت تسكن أمامه فتاة شديدة الجمال ، سقط في هواها وظل يشاغلها من نافذة منزله دون أن ترد عليه ولو بإشارة وظل على هذه الحال لشهور طويلة حتى كانت المفاجأة الكبيرة ، عندما اكتشف عن طريق الصدفة أن تلك الفتاة كفيفة ولم تكن ترى إشاراته وتلميحاته ..
واستمرت مغامرات نجيب محفوظ النسائية والسرية طويلاً حتى تزوج وكانت زوجته صاحبة الفضل الاكبر في تغيير وجهة نظره عن المرأة التي لم يكن يرى فيها إلا جسداً ومتاعاً خاصاً للرجل .. وبطبيعة الرجل الشرقي ابن الاحياء الشعبية عزل زوجته عن مجتمعه الادبي والثقافي ولم يجعلها تشاركه فيه وساعدته على ذلك طبيعة زوجته غير الاجتماعية والتي كان همها الاكبر الحفاظ على طقوس نجيب محفوظ في الكتابة وتربية ابنتيه اللتين لم يكن يعرفهما أحد إلا بعد حصوله على جائزة نوبل ، وذهابهما الى السويد لاستلام الجائزة ، التي كان يرى أن هناك من يستحقها أكثر منه ، وأعلن وقتها أن ” يحيى حقي و توفيق الحكيم و يوسف ادريس ” هم الاولى بها منه في تواضع الزهاد والعابدين والركع السجود .
في حياة نجيب محفوظ مجموعة من الاصدقاء كان أشهرهم شلة الحرافيش التي كان من أهم أعضائها الراحل احمد مظهر والمخرج الكبير توفيق صالح والعبقري صلاح جاهين وكان المقر الدائم لشلة الحرافيش هو قهوة “ريش ” في وسط البلد ، وبعد هزيمة 1967 امتنعت تلك الشلة عن الاجتماع لأسباب امنية ، والنكسة رغم أنها كانت كارثة كبيرة من العيار الثقيل كسرت ضلوعنا جميعاً إلا أن نجيب محفوظ في روايته ” ثرثرة على النيل ” والتي صدرت قبل النكسة بسنوات كان قد تنبأ بها بحس الروائي والمتأمل لطبيعة الامور التي كانت تجري آنذاك ، ولكن لم يهتم أحد وقتها بالترويج للحلم الناصري الذي آمن به نجيب محفوظ في البداية ولكن عندما اكتئف مساوئه حاول عبر كتاباته انتقاده ولكن لم يهتم أحد .
عندما جاء الرئيس السادات انجاز نجيب محفوظ لافكاره وقناعاته لأن السادات كان يمثل لنا جميعا طوق النجاة من الهزيمة وكان يمثل للكاتب نجيب محفوظ الواقعية السياسية بعيداً عن احلام ناصر التي اسقطتنا في بئر سحيقة .
نجيب محفوظ في أواخر ايامه وبعد الحادث المرعب الذي تعرض له على يد أحد السفهاء المجرمين تغير بعنف لظروف مرضه وإصابته وصار عصبياً يضيق بعدسات الكاميرات ، وبعد أن كان صوته هامساً صار صوته عالياً لأنه لم يكن يسمعه لإصابته بضعف في السمع وظروف مرض نجيب محفوظ هي ما جعلته يستعين ببعض المحيطين بع لإرادته ، وفي ظني فإن البعض منهم قد استفاد من قربه من نجيب محفوظ بشكل كبير وهناك من ادعى أنه صديقه المقرب وكاتم اسراره ذلك الشخص أصدر بعد وفاته كتاباً يحتوي على تفاصيل عن نجيب محفوظ لم يكن من اللياقة ذكرها والمدهش أنه أصبح يصدر نفسه باعتباره المتحدث الرسمي باسم نجيب محفوظ في حياته وبعد مماته دون مراعاة أن هناك ما لا يجب أن يقال عن الكاتب الكبير نجيب محفوظ .. وحتى أكون واضحاً فأنا أقصد محمد سلماوي الذي ألومه كثيراً على ذلك التصرف غير اللائق .
نجيب محفوظ عندما وصل إلى المرحلة العمرية الاخيرة وكانت اجتماعاته بأصدقائه ودراويشه تتم باحدى المراكب السياحية لم يكن راضياً عن ذلك المكان فمكانه المفضل هو قهوة الفيشاوي التي كان يعقد لقاءاته فيها في الستينيات وارتبط مع صاحبها الفيشاوي الكبير بعلاقة صداقة كبيرة وحميمة ولكن تغير الظروف استدعت تغيير المكان .. وفي النهاية أقول إن نجيب محفوظ يكاد يكون هو الروائي الوحيد الذي استكمل بناء مشروعه الادبي ولم يترك فيه ثغرة واحدة وهو أمر من الصعب حدوثه ثانية فهو ومنذ اللحظات الاولى له وهو يعرف جيداً ماذا يريد وعمن يريد أن يكتب .. هو صاحب قمة عالية في الادب من الصعب الآن أن يصل إليها أحد .