باحثة البادية ملك حفني ناصف
صدمتها في زوجها كانت سبب المأساة!
بقلم الكاتبة الكبيرة
د. سهير القلماوي
الشاعرة والناقدة والرائدة المصرية الكبيرة الراحلة ملك حفني ناصف ـ أو باحثة البادية وهو الاسم المستعار الذي اختارته لنفسها ـ عاشت حياة أسرية أقل ما توصف به أنها مأساة، وقد حاولت التغلب عليها بالكتابة فحفرت لنفسها طريقا مميزاً، أما د. سهير القلماوي فهي استاذة جامعية وباحثة ويكفي أن من أشرف علي رسالتها للدكتوراه كان طه حسين، والمقال التالي مجتزأ من رثائها لملك حفني ناصف.
عاشت ملك حفني ناصف بلا ولد أحد عشر عاما ولم تنجب، مما كان يفجر في أعماقها أحاسيس الأمومة التي مارستها بالنسبة لأخواتها وإخوتها الأشقاء أو بالنسبة لأخواتها المصريات المظلومات المعذبات بأنانية الرجل وتخلف المجتمع. واستغل الزوج هذا الظرف استغلالا فأرسل من النساء من هددها بزواج جديد له لينجب الأبناء. وعاشت المأساة ـ مأساة التهديد ـ في صبر وحزن وجلد. ثم خافت العلاج والعمليات كما أخبرني أخوها، حتي زارت معه الاستانة لتعرض نفسها علي كبار الإخصائيين وهنا عرفت الحقيقة المهولة. إنه بعد أن أنجب أبنته الأولي أصيب بمرض، وفي هذا كل التفسير. كم رأت من هذا الزوج الذي حسدت عليه، وكم كانت مفاجآت حياتها معه دائما جبارة عنيفة! مفاجأة أولي بأنه متزوج قبلها، وثانية بأنه هو سبب ما ادعي عليها من عقم حاول أن ينلها بسببه، وثالثا وليس آخرا أنه غاب في ليبيا عاما كاملا مجاهدا فدائيا فيما حسبت، فانتظرت وقاست وأدارت له أعماله بشقائها أو تبعها حتي عرفت أن الجهاد لم يكن جهادا وان الشرف كان في الحقيقة عارا، فكانت الصدمة الثالثة. لقد عرفت أخت ملك كم كانت ترهب الحياة الزوجية التي تبني علي المداراة وظلم الزوجة واستبداد الرجل وأنانيته وسوء خلقه. كانت واقعة تحت تأثير تجربة ملك. قالت لي: إن أختها ملك ماتت في بطء وتلاشت من الألم علي سنوات معدودات. إن الألم يطحن الحياة. لقد طحن الألم ملك فماتت في ريعان الشباب ضحية ظلم صارخ وعذاب لم يعرف حدودا أمام الضمير الإنساني العادي.
تقول »مي« في كتابها عن باحثة البادية: »لما زارتنا المرة الاخيرة كانت ترافقها صويحبة لها فأخذت هذه تنقر العود وأنشدت الباحثة بصوتها الشجي
جادك الغيث إذا الغيث هي يازمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في السكري أو خلسة المختلس
وكأنما كانت في تلك الساعة متنبئة عن نفسها، متنبئة أن وجودها بيننا ليس إلا حلما في السكري أو خلسة المختلس، وأنها راحلة عما قريب في مقتبل العمر ونضارة الشباب«.
في الثانية والثلاثين من عمرها وفي يوم ٧١ أكتوبر سنة ٨١٩١ كانت ملك في بيت والدها تستسلم في آخر ساعات عمرها للحمي الاسبانيولية التي أنهكت قواها فأفقدتها الحياة. أكانت الحمي هي سبب وفاتها؟ كلا. إنه قلبها، قلبها الذي يذوب اشفاقا علي من يستحق الرحمة ومن لايستحقها. ثم آلام مبرحة لايدري أحد مبعثها إلا وهي، فقد كانت تكتم حتي من إخوتها آلامها الدفينة. حتي عن مي صديقتها وقد تبادلنا الرسائل والمناجاة علي صفحات المحروسة، وفتحت كل منهما للأخري نوافذ علي نفسها وروحها وعقلها.. حتي مي لم تستطع أن تطلعها علي حقيقة آلامها. ثم كان هناك المرض أي مرض، تقول لي: »كانت رسالتك عزاء جميلا لي في مرضي الطويل المؤلم، وبلسما ملطفا لجراحي البالغة التي قلت إنك عثرت عليها. آلاي أيتها السيدة شديدة، ولكني أنقلها بتؤدة كأني أجر أحمال الحديد؟ فهل تدرين ياسيدتي ما هو لي، ليس لي بحمد الله ميت قريب أبكيه، ولاعزيز غائب أرتجيه، ولا أنا ممن تأسرهم زخارف هذه الحياة الدنيا، ويستولي عليهم غرورها فأطمع في أكثر مما أنا فيه. وليس لي جار سييء أشتكيه، ولكن لي قلبا يكاد يذوب عطفا وإشفاقا علي من يستحق الرحمة ومن لايستحقها، وهذا علة شقائي ومبعث آلامي«.
تري أبلغ بها التحفظ والاحتمال أن تقول لصديقتها إنها ليست لها حال سيئة نشتكيها؟! قالوا إنها كانت حريصة جدا ألا يعرف أحد أنها فشلت في زواجها مخافة أن تسيء إلي سمعة المتعلمات في الزواج، وقالوا إنها بطبعها كانت كتوما للألم تشفق علي الأب الحبيب والأم المريضة من أن يألما لألمها.
ولكن هذا القلب هو سبب موتها حقا، لقد كانت مريضة محمومة وسمعت أنباء تقول: إن أخاها مجد الدين قد قبض عليه بتهمة تهريب ضابط سجين ومجاهد لمصر، فلم يطق القلب الرحيم سماع الخبر حتي عادت وحدها من باديتها إلي القاهرة في القطار محمومة لتطمئن علي الأخ الصغير. وكان مجد الدين في مرتبة الابن وكانت تري في أخواتها العوض عما حرمته من ولد وكان لابد من أن تري الأخ وتعمل علي تخفيف محنته.
وصلت إلي بيت الأسرة فاستقبلها الأخ ففرحت، ولكن آلم المرض اشتدت بسبب إعياء الرحلة وإجهاد النفس وتوتر الأعصاب. ولمدة ثلاثة أيام وفي تجاويف الهذيان من الحمي عرف الأقربون من الإخوة والأب لأول مرة أسرار هذا الزواج وأخلاق الزوج ومعاملته لها. أكانت هذه هي ملك التي تطمئنهم علي كل شيء في حياتها؟ أحقا احتملت هذه الآلام في صمت وكبت أوديا بصحبتها، واستخرجا منها روح المرح والدعابة لتكون روح سخرية لاذعة ومرارة ألم دفين؟ أحقا كانت ملك تغني وقلبها يقطر من الحزن دما؟
وفي إقامة الأسرة علي حقائق حياة الأخت الحبيبة ولابنة البارة استغفلهم الموت واصطفاها الله إلي جواره. فإذا هم يفيقون مرة أخري علي سر أكبر وخدعة أقسي وحزن أمر.
ماتت ملك وكأنما ومضة أخيرة من حياتها أرادت المقادير لها أن تضيفها قبيل موتها ليكسب هذا التراث الذي تركته خلاله وألوانه الطبيعية. ان هذه الملكة الأدبية وهذا الأسلوب الذي يفيض عاطفة ويترنح ألما كان نابعا من القلب، من التجربة القريبة لأمن الخيال. لذلك استطاعت أن تؤثر به في القلوب وأن ينفذ صوتها إلي من وافقها علي رأيها وإلي من خالفها فيه. حتي قالوا عنها إنها كانت كثيرة النزعات جمة الميول تناقض نفسها ولكنها في كل مرة مخلصة لما تقول، وفية لما تصور. ولايعدنيي أن أناقش هذا القول فلم أقرأ لها في الواقع ما هو متناقض في الرأي، ولكني أوافق علي أنها فعلا كانت مخلصة دائما في كل ما تقول.
قرأت »مي« لباحثة البادية فأرادت أن تزورها وكانت في حلوان، وفي الطريق إليها كانت »مي« تسائل نفسها أسئلة حول مظهر هذه السيدة وشخصيتها وماذا سيكون بينهما. وكان من هذه الأسئلة أتكون سيدة ممن يستكتبن الرجال ليشتهرن، وخاصة أن والدها عالم أديب يمكن أن يعاونها علي مثل هذا التصرف الذي عرفت به بعض السيدات في كل بلد. ولكن »مي« اقتنعت بمجرد الزيارة الأولي. إن ملك هي التي تكتب كل ما تنشر باسمها، ولم يتح لنا أن نري ملك، ولسنا نستطيع أن نوافق »مي« علي قولها لمجرد الموافقة. وإنما الذي يقرأ مقالات الباحثة وآراءها ويبحث عن أسلوبها ويتدبر صورها لاشك يؤمن أنه أمام أديبة مهما تكن درجة تحسنا لها، وأن هذا الأدب له طابع مميز وأسلوب ليس من السهل أن يوجد إلا في القلة النادرة، ومي تحلل لنا هذه الميزة ميزة الاسلوب الأدبي بعلمه. انها طريقة خاصة في خلق طاقات للكلمة ليست لها قبل أن يعمل الفنان فيها عمله.