في الطريق الى السبع عمارات
مصريات
مر عمر طويل وأنا لا أجرؤ على المطالبة بحقي في النزول من الميكروباص حتى ظننت أنه بعد دقائق ستقابلني يافطة «مرحبا بكم في شرم الشيخ»!
أشرف توفيق
لم يكن يوما عاديا من بدايته، فيبدو أن الشمس قد غلبها الحنين إلينا فاقتربت منا أكثر، أو أن نسمات الهواء الرقيقة اكتشفت فجأة أنها في مصر فقررت الهجرة في مركب الى إيطاليا.. مترو الأنفاق في هذا الوقت من اليوم _وقت الظهيرة_ كان كعلبة التونة محكمة الإغلاق والتي لابد أن يتأكد صانعها _سائق المترو كل محطة_ أن التونة مهروسة كويس!
بمجرد أن خرجت من عربة المترو مقذوفاً كطلقة مدفع، يمَّمتُ وجهي شطر السماء شاكراً الله على نعمة الحياة مجدداً وبدأت السير في منتصف الظهيرة حتى أصل الى موقف الميكروباص في حلمية الزيتون، الذي سيوصلني الى وجهتي التي لم أذهب إليها من قبل.. السبع عمارات!
وجدت في الموقف أكثر من ميكروباص، توجهت الى أحدهم لأسأل أحد الركاب كبار السن:
لو سمحت.. هوه ده رايح السبع عمارات؟؟
فأجابني متسائلا: السبع عمارات ولاَّ السبع عماير؟؟
تعجبني دقة الشعب المصري ولذا أجبته مبتسما: حضرتك كلها مباني فيها أسانسيرات يعني.. المهم إنهم سبعة.. هاهاهاها.
جلست في الكرسي الأمامي بجوار هذا الرجل الذي ارتسمت على وجهه الصرامة فجأة وكأنه يقول: انت هتهزر معايا ولاَّ إيه؟؟ وبجوار السائق الذي رأيت في وجهه كل المواصفات التي تصلح لأحسن مسجل خطر فيك يا وزارة الداخلية، أعتقد أن هذا السائق نسي مناسبة كل علامة في وجهه، وهل هي من آثار معركة الشرابية أم موقعة العمرانية أم ملحمة الحرافيش؟!
وبينما يتوافد الركاب على الميكروباص سألني أحد المواطنين التائهين مثلي:
– حضرتك هوه ده رايح «أربعة ونص»؟؟
وبما أنني مشهود لي بالذكاء الباهر أعملت عقلي في الأمر.. بما أننا سنذهب الى «السبع» عمارات.. فأكيد سوف يمر الميكروباص على «أربعة ونص».. وبالطبع هذا الزبون سينزل قبل محطتي بحوالي «اتنين ونص» كده.. علمونا ذلك في أولى ابتدائي! ولكن للأسف صرخ أحد الركاب في الزبون أن «أربعة ونص» ليست وجهتنا.. فدعوت الله على الحكومة التي بعثرت أرقامنا في كل مكان وبهدلت علم الحساب!
انطلق الميكروباص الصغير متوجها الى وجهته التي لا أعلم نهايتها، المهم أنه سوف يمر على السبع عمارات طيب الله ثراها.. ملت على السائق وبأقصي ما استطعت من أدب وهدوء رجوته أن يقف في محطة السبع عمارات لأنني لا أعرف الطريق.. نظر لي بطرف عينه فقط في كبرياء وهو يقول: «طيب»!
مرت عشر دقائق ولم يتوقف السائق.. فملت عليه مرة أخرى وذكرته بالأمر فزمجر قليلا وتحركت يده الى جيبه الذي لن يقل ما فيه عن (آر بي جي) وقال في عصبية: خلاص يا أستاذ حاضر هانزلك في السبع عمارات.. محدش طايق نفسه دلوقتي!
قبعت في مقعدي ساكنا خصوصا بعد أن تعالي صوت الكاسيت بأغنية (جنات) وهي تندب حظها بأن «فيه خيط ضعيف رابط ما بينا وده النصيب».. مع نظرات السائق التي تحذرني «هتخاف عليه.. هاخاف عليه.. هتسيب هاسيب» فكدت أن أقبِِّل يد السائق راجيا ألا يقطع الخيط ونبقي حبايب!
مرت نصف ساعة كاملة وأنا لا أجرؤ على المطالبة بحقي في النزول.. والميكروباص ينزل منه الركاب ويصعد ركاب آخرون حتى ظننت أنه بعد دقائق ستقابلني يافطة «مرحبا بكم في شرم الشيخ »!
استجمعت شجاعتي وهمست للسائق بخجل: هيه السبع عمارات لسه ماجتش؟؟
نظر لي شذرا وقال بهدوء: دي فاتت من ربع ساعة!
– بس أنا قلت لك أكتر من مرة عشان أنا مش عارف الطريق.
– خلاص اصبر.. قلنا خلاص اصبر.. اصبر بقي.
وصلنا الى آخر خط الميكروباص، نزل السائق ونادي على زميله السائق الذي سيعود على نفس الخط الى نقطة البداية: عشان خاطري، خد الجدع ده معاك للسبع عمارات.. ماتنساش السبع عمارات.. صرخ فيه صاحبه: خلاص ياعم السبع عمارات.. فهمنا.. غور بقي!
كان مقعدي في ذلك الميكروباص الجديد عبارة عن كتف رجل، ويد سيدة، ورأس طفل صغير وذلك لأنني جئت بعد حمولة الميكروباص.. وبدأت رحلة العودة.. فكرت أن أداعب السائق بقولى إنه من الممكن أن يقف بي عند «خمس عمارات» وأكمل أنا العمارتين الباقيتين ولكن نظرة الى تلك المطواة «قرن الغزال» التي تستقر في جيبه العلوي بديلا عن السواك، وذلك العرق الذي تصبب منه فأغرق نصف الميكروباص جعلتني أخرس!
ظل السائق ينهب الطريق نهبا فتذكرت ما حدث لي منذ دقائق فرفعت صوتي: ماتنساش تنزلني عند السبع عمارات لو سمحت.. غمغم السائق وكأنه يقول: اللهم طولك ياروح.. حاضر يا أستاذ حاضر!
بعد ربع ساعة بدأ الشك يداعب عقلي فصرخت خائفا: يا باشا.. هيه السبع عمارات قدامها كتير؟
فصرخ : يا أستاذ دي فاتت من خمس دقايق.. ما احنا كنا واقفين فيها.. مش تقول طيب انك نازل السبع عمارات!!
وما كان مني إلا أن صرخت: طب نزلني.. نزلوني أبوس إيديكم.. أنا بقالي ساعتين زبون في الميكروباصات.. أنا عايز أتجاوز المرحلة دي بقي.. أنا هاخدها مشْي.. أنا هاروح ماشي يا جدعان!
نزلت من الميكروباص وانطلق السائق، حاولت أن أشير لأي تاكسي بلا جدوي.. الشمس تنتقم من ذلك الكائن الوحيد في تلك المنطقة النائية الذي تحداها ومشي في الشارع.. ولا تعلم المسكينة أن كل ذنب هذا الكائن أنه اعتمد على جدعنة وتعاون أهل بلده، وأنه أراد الذهاب الى ذلك المكان البسيط.. «السبع عمارات»!!
روووووووووووووووعة
جميله وكوميديه جدا واسلوبك لذيذ برافوا عليك