مصريات
منذ صدور قانون رفع الحظر عن ارتداء الحجاب في الجامعات التركية مؤخرا، سادت حالة من التخوفات على ما سوف تؤول إليه الحالة التركية باعتبار أن صدور القانون هو أحد افرازات فوز حزب العدالة والتنمية الذي تمتد جذوره الى أصول إسلامية، وفي تصوري أن هذه التخوفات لها ما يبررها ولها ما لا يبررها في نفس الوقت، فلها ما يبررها في حالة الاعتقاد بأن قانون رفع الحظر عن ارتداء الحجاب هو أول استعمالات حزب العدالة الحاكم وهو حزب الاغلبية الذي افرز رئيس الجمهورية التركية ورئيس وزرائها بجوار اغلبيته في البرلمان التركي، وهذا من اقوى المبررات التي تؤصل لحالة القلق التي سادت بعض الاقلام الليبرالية كما سادت مناخ العلمانية التركي، عبر المظاهرات التي نددت بالعودة الى ما قبل تاريخ اقرار العلمانية على يد “كمال اتاتورك” عام 1925 بعد حظر ارتداء الطربوش والحجاب باعتبارهما من مظاهر دولة الخلافة الاسلامية التي تحولت الى كيان مريض، وعلى الجانب الآخر فإن تخوفات الليبراليين والعلمانيين في تصوري – ليس لها ما يبررها في حالة لو اعتبرنا ان بعض القشور التاريخية لو اعترت الجلد التركي ليس معناه بالقطع هو حالة من الردة الى ما قبل تاريخ الأمم التي تفقدها مكتسباتها بقانون.
من هذا المنطلق القاعدي اري انه يجب شرح الحالة من منظور شخصي ومن خلال قوانين الحركة الطبيعية، وانا اعتقد ان قانون “القصور الذاتي” هو الانسب لتطبيقه على حالتنا هذه الخاصة برفع الحظر عن ارتداء الحجاب، ومن المناسب ايضا توسيع مفهوم قانون القصور الذاتي للاجسام المادية لنطبقه على القصور الذاتي لمسألة الحجاب، فمن المعروف طبقا لقانون الحركة ان الاجسام عندما تفقد الصلة بالقوة الدافعة أو الطاقة تسير بعجلة تقصيرية بمعني تناقص معدل الحركة بصفة منتظمة حتى تصل الى درجة السكون بعد تلاشي الحركة، كذلك بعض الظواهر الاجتماعية، وكان لابد من هذه المقدمة لتوضيح حالة الحجاب التركي، فهو بلا شك قد فقد القوة الدافعة منذ سقوط دولة الخلافة، وبالتالى فإن بعض الارهاصات التي تظهر على السطح بحكم الحنين الى الماضي ما هي إلا حالة من حالات القصور الذاتي، التي سوف تنتهي الى زوال وسكون حركي، بعد انقطاع الفرع عن الاصل، وحتى لايكون التحليل من واقع نظري بحت، فلنضرب مثلا لما حدث هنا في مصر، فبعد قيام الثورة والغاء الالقاب والطربوش الذي تمتد أصوله الى الجذور التركية التي حكمت مصر، ظلت الالقاب متداولة بين طوائف الشعب، كما لم يختف الطربوش نهائيا، حتى السبعينيات من القرن الماضي، بل ظهر على الساحة الاجتماعية من يروج له وينادي بفرضه في المدارس والجامعات المصرية بحجة المحافظة على الهوية، ولعلنا نذكر ان رئيس حزب مصري معروف كان لا يحضر جلسات مجلس الشعب إلا وهو مرتديا “الطربوش” ولم يمنعها أحد وطبقاً لقانون القصور الذاتي للظواهر الاجتماعية فقد اختفي الطربوش من تلقاء نفسه وطار الى غير رجعة من فوق الرؤوس التاريخية، كذلك من منا لم يدر أن الحكومة المصرية ظلت لفترة بعد قيام الثورة تدفع الجزية لتركيا طبقا لمرسوم الخلافة، وبعدها لحقت الجزية بمصير الطربوش، فلم تعد هناك جزية ولا طربوش ولم نعد نشاهده إلا في الحفلات التنكرية في أكبر احتفالية للسخرية من الموروثات البالية!
من السائد فقها وقانونا عند فقهاء القانون الدستوري وعلم الاجتماع الحديث أن قوة الاعراف الاجتماعية تعلو في الضمير الاجتماعي على مرتبة القانون، مما يعني ان القانون مهما كان له من قوة وشرعية التطبيق لن يجابه التيارات الاجتماعية التي قد تتفق أو لا تتفق مع القانون، من هنا نستطيع القول إنه برغم امتلاك حزب العدالة على مثلث الحكم والوزارة والبرلمان باغلبية مطلقة فهو لازال يعمل تحت ظل قانون الدولة العلمانية التي وضع اسسها “اتاتورك” بل تعهد الحزب الحاكم على المحافظة على العلمانية ولازالت صورة “مصطفي كمال اتاتورك” تعلو جدران البرلمان التركي وهذا له دلالته، بصرف النظر عن استعمال حزب العدالة لصلاحياته الواسعة لاقرار قانون رفع الحظر عن ارتداء الحجاب في الجامعات التركية، وهي العقبة الوحيدة أمام العلمانية التركية، بعدما نجح حزب العدالة في تصوير العلمانية على أنها علمانية ملحدة وليست علمانية رشيدة تحترم النزوع الى الاديان وخاصة الإسلام، ولعل هذا من اخطاء العلمانية التركية التي لم تستطع شرح نفسها حتى الآن من منطلق الحريات العامة وحرية الشعب التركي خاصة، ولعل هذا ايضا ضمن اقوى الاسباب التي اكتسح بها حزب العدالة الانتخابات البرلمانية، فضلا عما حققه الحزب من رفع معدل التنمية ورفع مستوي الريف التركي، مما يعني في النهاية ان حزب العدالة والتنمية قد استطاع عن جدارة ان يقيم حوارا مع رجل الشارع التركي البسيط.
ولا أبالغ في القول اذن لو قلت ان صدور قانون حظر ارتداء الحجاب لا يعني بالضرورة الردة الى الدولة الدينية فلا يجب بأي حال من الأحوال المغالاة في التصورات المتخوفة من السلفية، وكل ما في الامر ان الحكومة قد اصدرت القانون طبقا لصلاحياتها الدستورية ليس أكثر، أما طبقا للتكييف القانوني للقانون الصادر فأري وجوب توضيح جزئية مهمة، فمن المعروف أن أي قانون يصدر إما منشئا وأما كاشفا، بمعني لو صدر “منشئا” فهو يوجد مركزا قانونيا جديدا لحالة لم تكن تشكل ظاهرة من قبل، أما لو صدر كاشفا فهو لم يأت بجديد وان كان ينحصر دوره فقط في اقرار الحالة ومن ثم تنظيمها بقانون، وفي كلتا الحالتين سواء صدر القانون منشئا أو كاشفا فهو يصدر في ظل القانون العام الذي يحكم فلسفة الدولة ولا يجوز الخروج على هذه القاعدة والا تعرض القانون الصادر للطعن بعدم الدستورية.
وعودة الى المناخ التركي ليفرض السؤال نفسه: هل صدر قانون رفع الحظر عن الحجاب على سبيل المنع أم الاباحة؟.. والسؤال هنا يجيب على نفسه فقد صدر القانون لرفع الحظر عن ارتداء الحجاب وهو أحد اشكال اباحة سلوك معين، فمن ارادت ان ترتدي الحجاب فلها ما ارادت، ومن لم ترد فلها ما ارادت أيضا، يعني ان القانون صدر مقرا لحالة من الحريات العامة ولم يصدر مانعا عن ممارسة الحريات وهذا في تصوري قمة احترام الحريات بصرف النظر عن الشكل الديني الذي اثار تخوفات البعض، بل صدر القانون موافقا تماما للمركز الحقوقي للمرأة التركية، سواء تعلق بالمرأة في ظل دولة علمانية أو في ظل دولة مدنية، وهنا قمة فلسفة القانون، وقد يخالفني البعض في هذاالتصور، ولكن يجب ان نقرر معا ان المحك هو جوهر الحريات وليس قشورها!
مسألة الحجاب استهلكت بحثا، ثم أطلت علينا مسألة النقاب، وكان حوار الدكتور “سيد طنطاوي” شيخ الازهر مع الطفلة المنتقبة في إحدى المدارس الازهرية كان بشارة البدء لفرصة مهاجمة الرجل، من التيارات الدينية واخطرها التيار السلفي الخليجي الدخيل على المناخ المصري منذ ثلاثين عاما، وأتصور ان بعض بارونات الحسبة يجهزون اوراقهم ضد شيخ الازهر بسبب منعه ارتداء النقاب، ومما سوف يشجعهم على ذلك ان المنتقبات توحدن داخل خيامهن السوداء التي لا تعلن عمن بداخلها، وقمن بمظاهرة احتجاجية، حوار شيخ الأزهر مع الطفلة المنتقبة هو الذي أعطي الموضوع أكثر من حجمه، لأن الممنوع مرغوب، وأخشي صدور قانون يمنع ارتداء النقاب، فسوف يأتي بأثاره السلبية، فلا داعي للتخوف على الشخصية المصرية التي لم تنصهر على مر التاريخ بالثقافات المستوردة والدخيلة، فمازال قانون القصور الذاتي ساريا، فلو تجاهلنا معركة النقاب الكبري كما تجاهلنا معركة الحجاب الكبري وتجاهلنا تركيا العلمانية، فسوف تذهب هذه القشور مع الريح، لتبقي شخصية مصر المعتدلة هي صاحبة الكلمة العليا في ظل دولة مدنية، هل خلت مصر من كل مشاكلها فلم يعد أمامها إلا حجاب ونقاب ويشمك يغطي وجوه نساء خدعتهن الفضائيات الوهابية؟!
الدكتورة “نوال السعداوي” تدعو للتضامن من أجل دولة مدنية، وعلى الجانب الآخر يدعو كهنة الأديان للتضامن من أجل دولة دينية، وانا ادعو للتضامن من أجل “الدولة الحديثة” لا هي مدنية ولا هي دينية ولكنها “دولة مواطنة” تحتوي كل التيارات تحت ظل دستور يتواءم مع معطيات الألفية الثالثة، وهنا لن يصح إلا الصحيح، ولن تجد قيمة تذكر للقشريات الدينية، اقترح على الدكتورة “نوال السعداوي” ان تدعو للتضامن من أجل الدولة الحديثة، طالما لم تعجبهم تسمية الدولة بالمدنية، هذا من باب سد الذرائع على المتاجرين بالاديان وبارونات الحسبة بعد أن ظهر كبيرهم متحديا وقال: “نعم أنا بارون الحسبة”!
مجمع البحوث الاسلامية بارك دعاوي الحسبة ضد الابداع، فما قوله لو قام واحد من اياهم مجانين الشهرة برفع دعوى حسبة على شيخ الأزهر على عرضحال دمغة بجنيه واحد لاغير؟!
“دعاوي الحسبة” غير دستورية ويجب ان يناضل رواد التنوير لإسقاطها من يد المتاجرين على السيرة الذاتية لرواد ورائدات التنوير، “دعاوي الحسبة” تذكرنا بـ “حلاق الصحة” في الماضي، وهو الشخص الذي اعطي لنفسه الحق المطلق لعلاج أي مرض، والكلام في كل شيء، والتدخل في النوايا، “حلاق الصحة” هو الذي أفقد “طه حسين” البصر، ولم يستطع أن يفقده البصيرة، “الحسبة” تحتاج الى إعادة نظر من الدولة لسبب بسيط وهو أننا نسعي للتقدم الى الامام، أما الحسبة فهي تسحب الدولة الى الخلف قروناً، للعودة الى زمن السلطة الزمنية الى افرزت محاكم التفتيش، والحسبة صورة من صور محاكم التفتيش، باسم الدين، فظهر من يرفع الدعاوي على رئيس الدولة في مصر، وعلى ملكة انجلترا، وقريبا على “شهريار” لأنه استمع الى “شهرزاد” في خلوة غير شرعية، “بارونات الحسبة” من فصيلة العرضحالجية يناضلون بشراسة لاسكات مصر عن الكلام المباح، لأنهم وحدهم الذين على حق ومصر كلها مبنية على باطل، وكل حسبة وانت طيب يافضيلة الشيخ، ومصر على اعتاب فجر جديد!
من أنقى قلب.. من أطهر قلم..
وصلتي “رسالة غفران”
أدركت فيك “فضيلة تسامح”.
تتباهي بها الأكوان
أنا اليوم ياسيدتي في “عيد الغفران”
في زمن يبخل بالأعياد..
على قلب إنسان
فامنحني يا إلهي من الفرحة..
ما يجود به الزمان
وامنحيني أنت من الفرحة..
ما لايحسب بمنطق الأزمان