بقلم: إسماعيل حسني: نشهد هذه الأيام وقائع تشكيل مفارقة سوف تحتل مكانها البارز فى صفحات التاريخ، وهى أن تكون إيران هى المكان الذى شهد انبعاث أسطورة الدولة الدينية فى الربع الأخير من القرن العشرين، وأن تكون هى أيضاً المكان الذى جرى فيه إعلان وفاة هذه الأسطورة ودفنها فى الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.
فلقد كان لنجاح الملالى الاثنى عشرية بقيادة «آية الله الخومينى» فى ركوب موجة المد الثورى المطالب بإسقاط نظام الشاه الفاسد فى إيران، ثم انفرادهم بالسلطة وإقامة دولة دينية أثر زلزالى فى بعث جماعات الإسلام السياسى من القبور، وإلهامها أو إيهامها بإمكانية تكرار ذات المشهد فى سائر الدول ذات الأغلبية الإسلامية.
وضع الجميع عقولهم جانباً، وشبه لهم أن ما رأوه على الشاشات كان مشهداً إلهياً يعكس إرادة السماء، وأنه قابل للاستمرار والبقاء تحت إشراف الملائكة، وحماية المؤمنين من الجن والعفاريت، وأصبحت إيران كعبة المجاهدين، يولون وجوههم شطرها، ويتوافدون عليها من كل فج عميق لتلقى تعليمات السماء، ونفحاتها.
إلا أن التغييرات الدراماتيكية التى تحدث هذه الأيام على خشبة المسرح الإيرانى، قد ذكرت الجميع بأن السماء برئية مما يصفون، وأنه لا يصح إلا الصحيح، وأن حركة التاريخ تحكمها قوانين، قد تتراخى لبعض الوقت نتيجة لجموح أحد المتغيرات، ولكنها لا تلبث أن تعود لتنطبق وبقوة، لتصحيح الأوضاع، وإزالة الأوهام، وإعطاء كل ذى حق حقه، وتمكين الشعوب من استعادة زمام أمرها.
فلقد قام الملالى بالسطو على الحركة الوطنية الإيرانية، واستطاعوا بفضل تنظيمهم الاستبدادى الصارم والقائم على مبدأ السمع والطاعة العمياء، ونتيجة لإنقسام وتناحر فصائل الحركة، استغلال حالة الفوضى السائدة فى الشارع الإيرانى والقفز على مسرح الأحداث. وفى ظل نسبة الأمية المرتفعة تمكنوا من حشد أعداد هائلة من العوام خلف الشعارات الدينية البراقة حتى تبوأوا مقعد زعامة الحركة الوطنية.
ورغم العهود والمواثيق التى قطعوها على أنفسهم لزعماء وقيادات الأحزاب المختلفة، إلا أنهم انحرفوا بالحركة الوطنية عن مقاصدها الحقيقية وهى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، واستأثروا بالأمر، واستبدلوا الاستبداد الشاهنشاهى باستبداد دينى أكثر حلكة ومرارة، ثم أمعنوا فى تصفية حلفائهم اعتقالاً ونفياً وإعداماً واغتيالاً.
فالمؤسسة الدينية الشيعية التى ينتمى إليها هؤلاء الملالى لم تكن أبداً على تناقض سياسى أو معرفى مع نظام الشاه، بل كانت شأنها شأن المؤسسات الدينية فى كل مكان تعمل فى خدمة النظام وتؤدى دورها بإخلاص شديد فى تغطية سوءاته وتبرير مظالمه. فالاستبداد هو قاسم مشترك طبيعى بين المرجعيات الدينية والديكتاتوريات، فكلاهما يمتلك الحقيقة المطلقة، وأى منهما لا يستطيع الحياة ليوم واحد بدون استبداد، ودون مصادرة حق الآخرين فى التعبير عن آرائهم. ولم يؤثر فى الأساس المتين لهذه العلاقة ما تخللها من فترات شد وجذب لا تخلو منها أوطد علاقات الشراكة والتحالف، فكان الملالى ينتفضون ضد الشاه إذا ما تجرأ فى ظل ضائقة مالية تمر بها البلاد على مراقبة أموال الخمس التى تتحصل عليها المرجعيات الدينية من دخول المواطنين، أو إذا ما حاول الاستيلاء على بعض ممتلكات هذه المرجعيات. كذلك كانوا يقفون بالمرصاد لأى محاولة تحديثية تهدد سلطانهم الدينى بالزوال. فثاروا مثلاً ضد محاولات الشاه عام 1935 منع مجالس العزاء الحسينية التى تدر عليهم عوائد مالية كبيرة، ومنع علماء الدين من ارتداء العمامة، وفرض نزع الحجاب عام 1936، وإلغاء العمل بالتقويم الهجرى، وتعطيل مراسم العزاء فى عاشوراء وما يتخللها من ممارسات وثنية دامية، وفرض الخدمة العسكرية على طلبة العلوم الدينية. ولكنهم كلما جد الجد كانوا يقفون بلا تردد إلى جانب النظام ضد قوى الإصلاح والتغيير.
وليس أبلغ مثالاً على ذلك من وقوف المؤسسة الدينية إلى جانب الشاه فى مخطط الإطاحة بحكومة «محمد مصدق» الوطنية عام 1953 بقيادة عميل المخابرات الأمريكية الشهير «كيرميت روزفلت». إذ أصدرت المرجعيات الدينية فتوى قبيل الانقلاب بأن «مصدق معاد للإسلام والشريعة»، وذلك بسبب سياسات الإصلاح الزراعى التى طبقها ولتحالفه مع القوى اليسارية والليبرالية، كما أصدر كبيرهم «آية الله كاشانى، بيانه الشهير الذى لعن فيه مصدق باسم الأجيال القادمة وعارض خروج الشاه من إيران وبعد نجاح الانقلاب كان «محمود» ابن «آية الله كاشانى» ثانى الخطباء فى الراديو الإيرانى لتأييد ومباركة الانقلاب على مصدق.
والجدير بالذكر هنا أنه منذ إسقاط حكومة مصدق لم يهدأ نضال الشعب الإيرانى يوماً واحداً بقيادة فصائل الحركة الوطنية اليسارية والليبرالية ضد نظام الشاه، نظراً لفساده واستبداده وعجزه عن تحقيق طموحات مواطنيه، إلا أن هذه الأسباب لم تدفع الملالى ومرجعياتهم أبداً للمشاركة فى النضال من أجل تغيير النظام، ولكن الذى أثار حنقهم ضد الشاه هو إتجاهاته التحديثية التى رأوا فيها خطراً داهماً على نفوذهم وسلطانهم وثرواتهم الهائلة. فلقد أراد الشاه استغلال عوائد النفط فى تحويل إيران إلى دولة قوية حديثة، وبالتالى لم يكن هناك مفر من علمنة المجتمع الإيرانى، فالعلمانية هى روح الحداثة، وهى وحدها الكفيلة بتحديث وتطوير أى مجتمع. ومن ثم قام الشاه باجراء تعديلات على قوانين الانتخابات البلدية لتفعيل مبدأ المواطنة وكانت تقضى بحذف شرط الإسلام للناخب والمرشح، وحذف شرط القسم بالقرآن، وإعطاء حق التصويت والترشيح للنساء، والسماح بانتخاب ممثلين للأقليات الدينية للبرلمان، وتعديل قوانين الأحوال الشخصية لمنح المرأة المساواة القانونية فى الزواج، وغيرها من القوانين المعمول بها الآن فى كل مكان، والتى كانت تعتبر من الحسنات القليلة لنظام الشاه فى نظر القوى الوطنية، إلا أنها كانت بالنسبة للملالى كفر بواح يوجب شق عصا الطاعة والثورة والجهاد، فدعا الخومينى إلى اجتماع عاجل فى بيت «آية الله الحائرى» وأعلن آيات الله معارضتهم لهذه الإجراءات، وأخرجوا طلبة المدارس الدينية فى مظاهرات احتجاجية حاشدة فى أنحاء البلد، حتى أجبر الشاه على التراجع عن هذه التعديلات الإصلاحية. وكان الشاه قد وقع فيما وقع فيه صديقه أنور السادات لاحقاً، حيث إنه ربما بتأثير الذكريات المؤلمة لحركة مصدق كان يعتقد أن الخطر على نظامه يأتى من الحركات اليسارية والليبرالية وليس من الحوزة الدينية التى اعتبرها شريكة له فى التصدى للشيوعية، لهذا فقد كان يعتقل زعماء الحركة الوطنية، ويلقى بأعضائها فى السجون، ولا يقوم بتضييق الخناق على مرجعيات الحوزة وأعضائها، مما سمح لبعضهم بتكوين جماعة «فدائيان إسلام» بزعامة «نواب صفوى» والتى كان الخومينى من أكبر مؤيديها، وكانت بمثابة الجناح العسكرى للحوزة الدينية، ولعبت أدواراً مؤثرة فى الإطاحة بنظام الشاه.
ولعل أصدقاءنا الماركسيين يحق لهم الآن أن يضحكوا حتى نرى نواجذهم، وهم يشاهدون «كارل ماركس» يطل علينا بلحيته الشعثة من قلب المشهد الإيرانى، ليذكرنا بقوانين الاجتماع البشرى التى أبدع فى اكتشافها وصياغتها، رغم أنف أستاذه هيجل، من أن تطور البشرية يتم من خلال تصارع المتناقضات الكامنة داخل النظام الواحد، ليتولد من صراعها نظام جديد، يحمل بداخله متناقضاته، التى لا تلبث أن تقوى وتشتد، لتبدأ فى التصارع، فينهار القديم ويولد الجديد، وهكذا دواليك أو ديالكتيك. فالحركة الوطنية الإيرانية استطاعت تأجيج صراع التناقضات الكامنة داخل نظام الشاه، فلما نضجت الثمرة، قام الملالى بقطفها أو سرقتها، ليقيموا نظامهم، الذى كان رغم شعاراته الدينية إنسانياً وبشرياً مثل سائر الأنظمة، وليس إلهياً أو سماوياً كما يدعون. ولأنه إنسانى فهو يحمل بداخله تناقضاته، التى لا تلبث أن تتصارع فيما بينها كما نرى هذه الأيام بين أجنحة النظام، لتنذر بأفول النظام القديم، وميلاد نظام جديد تكون فيه الغلبة للفريق الذى ينسجم مع حركة التاريخ ومع القيم الإنسانية الأصيلة والثابتة والتى لا تقبل المساومة أو الحذف أو الإلغاء من حرية ومشاركة ومساواة وعدالة، وإدارة الأوطان على أساس مبدأ المواطنة الذى يحفظ كرامة كل أبناء الوطن، فلا ديكتاتورية لطبقة عاملة أو غير عاملة (وهنا نختلف مع ماركس)، ولا ديكتاتورية لأغلبية دينية كما يزعم دعاة الدولة الدينية يهودية كانت أو إسلامية أو هندوسية.
إن ما يحدث اليوم فى إيران يؤكد أن صبغ الدول بصبغة أيديولوجية (ماركسية كانت أو دينية) لايستطيع أن يوقف قوانين الاجتماع الإنسانى عن العمل. وأن الدولة مدنية كانت أم دينية، هى كائنة على الأرض، وتتكون من أفراد وجماعات وطبقات متعارضة المصالح دائماً بحكم قانون ندرة الموارد الذى يحكم كوكبنا، وأن الصلاة والدعاء خلف إمام أو قسيس أو حاخام واحد، أو الهتاف لزعيم أوحد لا يعنى تبدلا فى الخريطة السياسية أو الاجتماعية فى المجتمع، أو تنازل أى فئة من فئات المجتمع عن مصالحها وحقوقها. كما يعلن أن عقول البشر وأفئدتهم مهما تم غسلها بوهم الأيديولوجية لابد أن تفيق يوماً، تستعيد عشقها للحرية، ونزوعها الدائم لكسر الأغلال وتحطيم القيود، ولو كانت قيودا من ذهب.
إن ما يحدث فى إيران اليوم يؤكد للحالمين الباحثين عن حلول إلهية لمشاكل الإنسانية، أن الخالق قد زود الإنسان بالعقل، ثم أوكله إلى نفسه وإلى قوانين الطبيعة التى تحكم الكون. فالنصوص الدينية تعمل داخل القلوب هداية ورحمة وليس خارجها، ولا يمكن توظيفها فى بناء مؤسسات الدول وبنوكها ومصانعها، أو رسم سياساتها.